رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما بين «شيهيت» وحُب المال


كلمة «شيهيت» كلمة قبطية تعنى «ميزان القلوب» وقد أطلقت على برية وادى النطرون التى تُعد ثالث تجمع رهبانى بعد برية «نتريا» وبرية «الأسقيط». وتلك التسمية اُطلقت على برية وادى النطرون المقدسة (التى تضم الآن أديرة القديس أنبا مقار والبراموس والسريان والأنبا بيشوى) والتى فيها يقدم الراهب- من المفروض- حياته لله وازن القلوب والأرواح. وفيها يكون الراهب مدققًا جدًا فى حياته وأفكاره وسلوكياته، وازنًا أعماله لتكون متطابقة مع تعاليم الكتاب المقدس، ملتزمًا بتعهداته الرهبانية التى بدأ بها حياته داخل الدير وتستمر معه حتى وهو فى درجة الأسقفية (سواءً أسقفًا أو مطرانًا أو بطريركًا) وقد رأينا ذلك الالتزام الرهبانى فى حياة البابا كيرلس السادس فلم يفارقه- فى يوم ما- نسكه الرهبانى فى مأكله أو مشربه أو ملبسه. عاش بيننا فقيرًا- فى فقر حقيقى- ورحل إلى السماء غنيًا بفضائله الكثيرة وأبوته التى ما زال الكثيرون يتحدثون عنها كنموذج لراهب ملتزم. لا يدخل حُب المال إلى قلب الراهب ولا التطلع إلى المناصب الكنسية بل يهرب منها، بعكس ما يحدث حاليًا!!
وبين أيدينا كتاب «فردوس الآباء» أو «بستان الرهبان» الذى يضم أروع القصص عن النساك والمتوحدين ورهبان الأديرة الذين عاشوا فى برارى مصر، ويعود الفضل فى وضعه عام 420م إلى الأسقف «بلاديوس» Palladius (وُلد فى غلاطية عام 364م وسلك حياة الزهد وهو فى العشرين من عمره، وبعد رهبنته زار مدينة الإسكندرية وفيها تعرف على الأبوين إيسيذوروس وديديموس الضرير وعاش معهما فترة من الزمن وكان كلاهما صديقين للأنبا أنطونيوس أب رهبان العالم كله)، بناءً على تكليف من «لوساس» Lausus الذى كان من كبار حاشية الإمبراطور «ثيودوسيوس الثانى»، حيث اعتلى العرش عام 408م. والكتاب يقدم صورة صحيحة لظاهرة من أعظم وأروع ظواهر المسيحية، التى عاينها العالم، وتابعها منذ نشأتها وخلال أطوار نموها. كان البابا شنودة الثالث البطريرك 117 قد اهتم بنشر سلسلة من هذا الكتاب بمجلة «الكرازة» مترجمة عن النسخة الإنجليزية التى اهتم العالم الإنجليزى القدير «بتلر» Butler بنشرها عام 1898م. وفى أثناء دراستى بكندا فى الفترة (1975-1981) كنت أطالع تلك الحلقات بشغف كبير، حتى قمت بتجميعها وقدمتها لكاهن كنيسة مار مرقس بولاية ميتشجن الأمريكية الذى قام مشكورًا بطبعها لتعم الفائدة بين أبناء القبط فى الخارج، وكان لى ترتيب مع البابا شنودة الثالث فى طبع هذا الكتاب النفيس، لكن العمر لم يطل به!! فلم يتم طبع الكتاب وتوقف المشروع الرهبانى.
من بين القصص التى وردت فى كتاب «فردوس الآباء» قصة أب عاش فى فلسطين يُدعى «بلاجريوس» Philagrius كان يشتغل بيديه، ويكد للحصول على ما يسد به رمقه، وفى يوم ما، عثر على كيس كبير يحوى ألف قطعة نقد ذهبية، كان قد سقط من صاحبه فى الطريق، فالتقطه ولم يبرح المكان الذى عثر فيه عليه، لتوقعه أن يعود صاحبه للبحث عنه، وفعلًا عاد الرجل وهو يبكى وينتحب، فانحنى به القديس جانبًا، وسلمه الكيس فى الخفاء، ورفض ما عرضه عليه من عطاء، على سبيل المكافأة. فذهب صاحب الكيس، فى موجة من عرفان الجميل، يصيح قائلًا: (هلموا لتروا ما أسداه إلىّ رجل الله الصالح من جميل)، ولكن الأب الوقور تسلل من المدينة متخفيًا، خشية أن يشتهر بهذا الصنيع، ويصبح موضعًا لتكريم الناس.
يروى عن أحد الرهبان أنه كان معتادًا أن يأخذ كفايته بما يصله من طعام، فإذا ما حل به ضيف، قدم إليه طعامه كاملًا، دون أن يمسه، وهو يقول: (إنى أحس شبعًا وريًا، فالرب قد أطعمنى).
اعتاد راهب أن يعيش فى زهد بالبرية، فوصلته رسالة من أهله، جاء فيها: (والدك مريض جدًا، وقد أشرف على حافة الموت فأحضر لترث ممتلكاته!)، فأرسل إليهم رده قائلًا: (لقد مُتُ عن العالم، قبل أن يأتى الوقت الذى سيموت فيه أبى بزمن طويل، ومن غير المُستطاع أن يصبح الميت وريثًا لمن لا يزال على قيد الحياة!).
والحقيقة أنى رأيت نفس السلوك الرهبانى الحقيقى فى راهب ناسك كان يخدم معنا فى كنيسة بمدينة تورنتو بكندا، وذلك فى أواخر عام 1975، وقد وصل أعضاء مجلس الكنيسة خبر رحيل والدة هذا الراهب- الذى كان يقيم فى حجرة صغيرة بمساكن طلبة جامعة تورنتو فى أثناء دراسته مقرر لغة إنجليزية- وعندما ذهب إليه أعضاء مجلس الكنيسة ليبلغوه بالخبر كانوا مترددين فى كيفية إخباره، فعندما وجد الارتباك على وجههم قال لهم: (أتريدون أن تقولوا إن والدتى ماتت؟ أنا سبق وقد متُ من قبلها فكيف يحزن ميت على ميت؟). كان هذا الراهب ناسكًا حقيقيًا، وكان فكر الموت الذى مارسه عند بداية حياته الرهبانية ساكنًا فيه ولم يفارقه.
أذكر أن أحد المهندسين توجه إلى دير القديس أنبا مقار بوادى النطرون بغرض الرهبنة، فتقابل معه أحد شيوخ الدير من الرهبان وسأله عن سبب حضوره للرهبنة بالدير، فقال له: (حضرت حتى يكون للدير فيما بعد اسم بين بقية الأديرة!)، فقال له الراهب: (ماذا تعنى؟)، فكانت إجابته: (عندما أصير أسقفًا سيكون للدير اسم بين بقية الأديرة)، فقال له الأب الراهب: (يا أخ لقد أخطأت هذا المكان، فنحن هنا فى الدير «الراهب من القلاية إلى الطافوس (أى المقبرة)» لا يوجد بينهما طريق آخر. هذا معناه أنك لا تصلح لهذا المكان). وفعلًا غادر دير القديس أنبا مقار وذهب إلى دير آخر وبعد بضعة أعوام صار أسقفًا على إحدى الإيبارشيات!! وهكذا للأسف الشديد أصبح هدف ترهُب عدد كبير من الشباب هو الوصول إلى درجة الأسقفية. وعلى العكس تمامًا أعرف شابًا كان طالبًا بهندسة الإسكندرية تخصص هندسة الحاسب، بعد تخرجه اجتاز اختبار الذكاء على مستوى العالم وكان ترتيبه الخامس، وتحت إلحاح من شقيقه المقيم بمدينة نيويورك، سافر هناك ومكث بضعة أعوام، ثم عاد من نيويورك إلى الإسكندرية ومنها إلى الدير. وحتى الآن يرفض أى درجة كهنوتية ويحيا فى حياة رهبانية صادقة ولم يرضخ لأى نوع من الضغوط لقبول أى درجة كهنوتية، وهو ملازم ديره دون أن تكون له لقاءات مع الزوار أو يملك جهاز محمول أو سيارة، فقط يحيا حياة رهبانية صادقة. وأيضًا كثير من رهبان دير القديس أنبا مقار بوادى النطرون لا يملكون أى درجة كهنوتية كتعاليم آباء الرهبنة الأولين. أما حاليًا لأن الهدف الرهبانى غير صادق، فالسعى نحو الحصول على درجات كهنوتية ودرجات الأسقفية أصبح هدفًا فى حد ذاته، وفى الأسقفية ينتهى النسك الرهبانى الحقيقى وتبدأ المشاكل مع شعب الإيبارشية وبالأخص فى بلاد المهجر، قليلون هم السالكون بنفس الروح الرهبانية الصادقة. من يعيد الحياة الرهبانية إلى وضعها الآبائى الأول؟ يجب أن يكون المسئول راهبًا ناسكًا ملتزمًا بالسلوك الرهبانى، ففاقد الشىء لا يعطيه.