رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هنا يٌعد "الكحك".. "الدستور" ترصد تطور الأفران على مدار 30 سنة

جريدة الدستور

فتاة لم تتجاوز العاشرة من عمرها، ترتدي فستانًا قصيرًا أضفت ألوانه ووروده البهجة والسعادة على ملامح وجهها، تمتم بكلمات وأغاني لا أحد سواها يفهمها، وضعت أعلى رأسها قطعة قماش مستديرة يستند عليها صاجًا كبيرًا يكاد يكون وزنه وعمره أكبر من هذه الفتاة، به ألوانًا من الكعك، وما أن وصلت هذه الفتاة إلى الفرن ووضعت الصاج أرضًا لتنتظر دورها في إنضاج وتسوية صاج الكحك الخاص بها حتى تتمكن من الذهاب إلى بيتها والعودة سريعًا بآخر ولكن هذه المرة قد يملأ هذا الصاج أشكالًا مختلفة من البسكوت.

تجولا محررا "الدستور" في أقدم الأفران الشعبية التي تقوم بتسوية الكحك والبسكوت، في عدد من المناطق ذات الطابع الشعبي التي ما زالت تحتفظ بعادات وتقاليد مصرية أصيلة تكاد تكون اندثرت في نظيرتها من الأحياء الراقية الجديدة، ألا وهي إعداد عجين الكحك والبسكوت وتشكيله في المنزل ومن ثم تنظيمه في أواني وصاجات والذهاب بها إلى أقرب فرن ومخبز لإكمال عملية إنضاجه.

الفرن الآلي أسهل وأسرع
شابان وقفا لتنظيم صواني الكحك، الأول ينظم الكحك في الصاجات، والثاني يقوم بوضعها في جهاز الفرن الآلي، ويتابعها عملية التسوية حتى يتأكد من نضوجها، أواني الكحك والبسكوت تملأ أرجاء المحل، هكذا كان الحال في إحدى الأفران القديمة في منطقة كعابيش بفيصل.

بداية يقول سيد حسين، صاحب الفرن، لـ"الدستور"، إن هذه الفرن تعد من أقدم الأفران في المنطقة، غير أنه يعمل في هذا النشاط منذ زمن، معلقًا: "أنا من وجه قبلي ومعظم الصعايدة يتاورثوا نشاط الأفران والمخابز، الحاجة اللي بنفهم فيها وبننجح في إدارتها.

"كنا زمان بنشتغل على فرن الطاقة، وكنا بندخل كل صاج لوحده ونستنى لغاية لما يستوي وهكذا، لكن الوضع اختلف تمامًا الآن، فأصبحنا نشتغل بالفرن الآلي"، يقولها سيد، أحد عمال هذا الفرن".

سيد، عامل بالفرن، يقول إنه امتهن أكثر من نشاط منذ صغره حتى الآن، ولكن استقر على عمله في الأفران منذ ثماني سنوات، يقول: "الفرن الذي أعمل به، يعتمد على تسوية الكحك في الفرن الآلي لأنه أسرع وأسهل على عكس فرن الطاقة "بتاخد مجهود ووقت كبير".

واختتم سيد، عملية البيع والشراء لم تعد كالسابق، وكذلك عادة تسوية الكحك والبسكوت، فإقبال الناس على إعداد الكحك في بيتها وتسويته في الفرن قل، مرجعًا ذلك إلى أن المعظم أصبح يستسهل شراء الجاهز من البسكوت والكحك والبيتي فور، فهناك ركود بشكل عام في الجاهز والتسوية.

منطقة السيدة الزينب التي دائما ما كان يُعرف عنها التطور في صناعة الحلويات الشرقية خاصة "كحك العيد" كانت إحدى وجهاتنا للتعرف على طريقة عمل الأفران هناك ومدى الإقبال من الزبائن على الكحك هذا العام، لنتقابل مع "مصطفى يونس"، 38 عاما، يدير فرن مخبوزات شهير في السيدة الزينب، يبدأ حديثه لـ"الدستور" قائلا إن الإقبال اختلف كثير عن المواسم السابقة فمنذ 5 أعوام فقط كان الفرن يبدأ في إعداد كحك وبسكوت العيد في يوم 10 رمضان استعدادا لزحام الموسم، لكن في الفترة الأخيرة أصبح المحل يبدأ يوم 25 رمضان نظرا لعدم اهتمام الزبائن وعدم الشراء بكثافة أيضا كما قبل.

خامات الكحك اختلف سعرها أيضا مما أثر على مقدار الإنتاج لدى الفرن، فسعر الدقيق والسكر وباقي مستلزمات الكحك تتضاعف سعرها في الأعوام الأخيرة حتى أصبح الفرن ينتج كمية محدودة على مقدار رأس المال المتوفر، ولهذا السبب أيضا ارتفع سعر الكحك حتى لا يتعرض الفرن للخسارة المالية، فأصبح هناك اعتراض من جانب الزبون الذي اعتاد على شراء أكثر من 3 و4 كيلو في العيد ليشتري الآن كيلو واحد فقط يقضي به الموسم بتعليقات معينة عند عملية الشراء "بنشتري لحمة ولا إيه".

يعمل "مصطفى" في مهنة إعداد الكحك منذ أن كان في مرحلة الإعدادية حين كان يساعد والده في الفرن الخاص به بعد العودة من المدرسة وعمل بأكثر من مكان في محافظات مختلفة مهتما بتلك المهنة فقط، وعمله كمدير في هذا الفرن كان بعد سنوات طويلة من الخبرة في المجال ليعرف كيف يدير الأمور، وعن استخام الفرن الآلي قال "أصحاب الأفران تستسهل في إعداد الكحك من خلال اللجوء إلى الفرن الآلي لسرعته في إنجاز الأمور والقدرة على البيع أسرع، لكن هذا الفرن يكلف صاحبه أضعاف الفرن التقليدي ويحرمه من مذاق فرن الطاقة".



فرن "الطاقة" يعطي نكهة للكحك
في إحدى الشوارع الصغيرة بمنطقة دار السلام تفوح رائحة الكحك الطازج الذي يجعل الوافدين على الشارع في حالة من السعادة لاقتراب عيد الفطر المبارك، وحالة أخرى من الفضول لتذوق طعم هذه المخبوزات، وفي جولة "الدستور" لتتبع الأفران الشعبي التي تعد كحك العيد توصلنا إلى مصدر تلك الرائحة التي ملأت المكان بأكمله، محل ذو مساحة صغيرة لا يفرغ به مترا واحدا بسبب الكمية الكبيرة من صيجان الكحك التي كانت منتشرة إلى خارج المحل.

وفي الحديث مع صاحب المحل "عبد الله مطر"، الذي يعمل في تلك المهنة منذ 27 عاما، كشف لنا سر الرائحة التي زينت شوارع دار السلام قائلا: "الفكرة كلها إني بعمل الكحك في أفران الطاقة زي زمان"، ويوضح عدم استخدامه للفرن الآلي كما تستخدمه أغلب الأفران حاليا في إعداد الكحك والبسكوت لسرعة الطهي والمجهود الأقل في حين أن الطهي على الفرن البلدي يحتاج مكان مخصص غير مكان البيع وعمال ذو خبرة كبيرة في المجال.

"جئت من الصعيد مع عائلتي وأقاربي للتوسع في إعداد المخبوزات خصيصا، واتفقنا سويا على تقسيم مهام العمل بين الإدارة في أمور البيع والطهي على الأفران البلدي"، هذا ما يقوله عبد الله عن غربته مع عائلته التي كانت دائما مهتمة بإعداد المخبوزات الشعبي وبيعها بأسعار مناسبة للبسطاء الراغبين في تناول كحك العيد، ويقول إنه أصر على الاستمرار في إعداد الكحك بأفران الطاقة للحفاظ على الطعم الصعيدي النادر الذي يقدمه للزبائن وتوفير رأس المال حتى يتمكن من البيع بأسعار رخيصة ومناسبة للجميع.

الجد الأكبر هو من زرع المهنة داخل عبد الله وأسرته حين كان يوظفهم جميعا لإعداد الكحك بالمنزل الصعيدي على الفرن البلدي لمساعدته في تيسير أمور البيع بالمناسبات والمواسم، وعن طريقة العمل يقول "زوجتي وزوجات أشقائي يعدون الكحك داخل شقة صغيرة في المنزل الخاص بنا ثم يقومون بإرسالهم في صيجان مع عمال المحل لنقوم بتغليفهم وبيعهم"، كما يستخدمون خامات الكحك من سمن بلدي وبيض ودقيق بكميات بسيطة حتى لا تؤثر على السعر نظرا لارتفاع أسعارهم، بجانب إضافة رائحة الكحك التي تعدها السيدات داخل المنزل لتعطي الكحك طعم لذيذ ورائحة فواحة في حين الاستغناء عن صرف العديد من الأموال في فواتير الكهرباء والأفران الآلي بالاعتماد على الفرن البلدي الصغير الذي يحتاج أسطوانة غاز فقط.

الإتقان في صناعة الأشكال المختلفة من الكحك هو سر تميز المحل، فالسيدات الطاهيات محترفات في تشكيل الكحك على أشكال مستطيلة ومستديرة وأشكال أخرى متعددة، كما يضيفوا له سر الطبخة كما يقول صاحب المحل "الملبن والعجوة اللي بنضيفهم للكحك مش هتلاقيهم عند حد علشان بنبعت نجيبهم من الصعيد مخصوص قبل كل عيد والصعايدة محترفين في صناعة الملبن والعجوة"، ويضيف "مطر" أن كحك الماركات انتشر في السوق المصري وعليه إقبال كبير لضمان جودته، لكن ما زال هناك اختلاف بينه وبين كحك الطاقة في المذاق والرائحة.

تحدثنا إلى أحد القاطنين بالشارع الذي عبر عن رأيه في طعم المخبوزات التي يعدها المحل قائلا: "أحسن مكان بيعمل كحك العيد وبنفرح لما العيد يقرب علشان ناكل من عنده، بتلك العبارات أوضح "علي"، 26 عاما، أن جميع أهالي المنطقة يقبلون على المحل لشراء الكحك والبسكوت في المناسبات لثمنه الرخيص ومذاقه الجميل، وفي الأيام العادية يعتمدون على شراء المخبوزات الأخرى منه دائما كالخبز البلدي وغيره من مستلزمات المخبوزات. ويقول الشاب إن سعر الكحك أصبح يفوق مئات الجنيهات في حين أن هناك إمكانية لإعداده بطريقة أفضل وأرخص تناسب الأسر محدودة الدخل لرغبتهم في شراء تلك المنتجات بكميات تناسب المواسم.

"زمان كنا بنشتري أكتر من 5 كيلو في العيد دلوقتي بقينا بنجيب الكيلو بصعوبة"، هذا ما يقوله الشاب عن اختلاف الإقبال على كحك العيد بين الفترة الحالية وما قبل، عندما كان الشخص يذهب إلى الفرن في ليلة العيد لشراء كمية كبيرة من الكحك لأسرته وأقاربه وإعداد موائد الزيارات الموسمية، لكن اختلف الوضع الآن حتى أصبح الشخص يشتري كيلو واحد فقط لذويه في المنزل.

في إحدى الحواري الضيقة في إمبابة، وبالتحديد في شارع الوحدة، وجدنا هناك فرن يعمل بنظام التسوية القديم، أي فرن الطاقة، احتفظ هذا الفرن بطرازه الخاص على مر عشرات السنوات، حتى أنه في الأيام العادية يقوم صاحب الفرن بإعداد الخبز البلدي الكبير الذي لم يعد هناك أحد يعمله سوى القليل.

"الفرن عمره أكثر من 30 عامًا"، هكذا يقول أحد العمال في هذا الفرن، لم يُرد أصحاب هذا المكان بتغييره وتعديله لفرن آلي كما فعلت العديد من الأفرن والمخابز الأخرى، وفضّل صاحب الفرن وأولاده الإبقاء على الفرن كما هي، والاحتفاظ بطرازها القديم والأصيل، فهي تعد واحدة من أقدم أفران الطاقة في منطقة إمبابة.

الفرن البلدي التقليدي، يكون له أكثر من فتحة، لوضع الأخشاب الجافة فيه، ويضم الفرن سطحا أفقيا من الداخل يوضع فيه الخبز، وهناك فتحة أخرى من الداخل لتخرج النيران لتسخين هذا السطح الذي يوضع به المخبوزات، وفتحة أعلي السطح يتم فتحها إذا كان الفرن شديد السخونة حتي لا تحرق ما بداخلها من مخبوزات وعجائن، وفتحة صغيرة للغاية من أعلي الفرن بالخارج يتم سدها بالطوب وتفتح وقت الحاجة.

وبالعودة لصاحب هذا الفرن العريق، يقول إنه رفض تحويل الفرن كمخبز آلي، وأصر على إبقائه كما هو إيمانًا منه بأن هذه الطريقة هي الأفضل في إنضاج وتسوية المخبوزات لأنها تضفي عليها نكهة جميلة، مستطردًا أنه يبدأ في استقبال صاجات الكحك من الأشخاص الذي يبدأون تسويتها من منتصف رمضان، مشيرًا إلى أن هناك من يأتي بالصاجات الخاصة به، وآخرون يأخذون صاجات الفرن ليقوموا بإعداد البسكوت والكحك بها، وإرسالها له من جديد مع أطفال المنطقة حتى يقوم بتسويتها في فرن "الطاقة".


الأرياف لها رأي أخر.. أصل الكحك
السيدة "نبوية"، 56 عاما، خصصت جزء كبير من منزلها الريفي في منطقة كفر السوالمية التابعة لمحافظة المنوفية لتضع به فرن بلدي يحيطه صيجان من الحديد وتجلس أمامه بالساعات مع ابنتها الوحيدة قبل اقتراب العيد بأيام لتنتج أكبر قدر تستطيع إنتاجه قبل حلول عيد الفطر المبارك، ليكون جزء منه لمنزلها وأسرتها والجزء الأخر للبيع وكسب المال منه كما اعتادت كل موسم منذ أكثر من 25 عاما.

على الطريقة القديمة تٌصنع "نبوية" كحك العيد رغم تقدم سنها إلا أنها لم تمل أو ترهق من الجلوس أمام الفرن شديد الحرارة ولا تغادره حتى تفرغ من الكمية التي تريد إعدادها ويحل العيد، وتستعين السيدة بفتيات من ذويها أحيانا لمساعدتها في توزيع الكحك على الصيجان وإرسالهما إلى المخبز الذي تتفق معه على البيع، وعن المذاق تقول "اللي ياكل كحك نبوية مش هياكل كحك تاني، الريف هو أصل الكحك".

"زوجي يساعدني في توفير الخامات من السوق والاتفاق مع أصحاب المخابز على سعر البيع"، هذه العائلة تنتظر اقتراب موسم العيد كل عام ليكون باب رزق لهم في بيع الكحك والبسكوت الذي يتقنون إعداده بالفرن البلدي القديم الذي احتفظوا به منذ أعوام كثيرة، كما يساعدون أقاربهم في توفير كحك العيد دون مقابل مادي لأنهم يعلمون أن أسعار المخبوزات ارتفعت الآن ولا تتناسب مع ظروفهم الاقتصادية.


وعن التكلفة "الخامات فقط هي التي تكلفنا الكثير لارتفاع أسعارها عن ما قبل لكن التسوية في المنزل ليست مكلفة، فنببيع للمخبز بسعر أغلى عن ما قبل تزامنا مع الأسعار الحالية"، وتعبر السيدة عن مذاق الكحك الخاص بها قائلة: "فيه ناس كبار في البلد بيجوا يزورونا مخصوص علشان ياكلوا الكحك من إيدي".