رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كُتَّاب الدستور يحاكمون دراما وبرامج رمضان

تعذيب المتفرجين بقضايا ملفقة لا تعرف الواقع


بدأت علاقتى بالمسلسلات مبكرًا حين قررت والدتى، عام 1962، أن تشترى لنا تليفزيونًا بالقسط من محلات عمر أفندى، وكان ثمنه- حينذاك- خمسة وثلاثين جنيهًا، وقد حدثتنا أمى طويلًا عن الجهاز فى الليلة التى سبقت تسلمه، جلسنا حولها ساهمين نتطلع إليها مبهورين وهى تشرح لنا- وهى نفسها مدهوشة- أن التليفزيون جهاز صغير لكنه يعرض الأفلام بلا نهاية.. وظُهر اليوم التالى دخلت علينا وخلفها شاب يحمل الجهاز، ونحن من الترقب قد حبسنا أنفاسنا، ولم أرَ وجه والدتى مشرقًا بالفخر والمجد قدر ما رأيته وهى تضع التليفزيون الصغير على سطح «شوفينيرة» فى الصالة، وهى تستدير إلينا بنظرة العطف والسخاء الملوكى.. وحين طالبناها على الفور بتشغيل التليفزيون، قالت إن الإرسال يبدأ فى الرابعة فقط.. وفى انتظار الإرسال الذى بدأته مصر فى 1960، أخذنا نختار قماشة لوضعها فوق الجهاز المبجل، ونمسح حوله وتحته، ونتطلع إليه من بعيد ثم من قريب، ثم نشغل له المروحة، وكدنا أن نطعمه ونسقيه من شدة اهتمامنا به.. فى الرابعة بدأ الإرسال، ويالها من ساعة صمت، ستة أولاد تتراوح أعمارهم ما بين العاشرة والخامسة عشرة تربعوا على أرض الصالة وقد فغروا أفواههم يتطلعون برهبة وانبهار إلى اللحظة التى ستدب فيها الحياة فى الشاشة التى ستنقل إليهم الأفلام وهم فى بيتهم دون أن يغادروه. كان «هارب من الأيام» أول مسلسل أراه فى حياتى، وأول مسلسل مصرى، وكان إنتاجه بعد عامين من الإرسال، عن قصة ثروت أباظة، بطولة عبدالله غيث، وإخراج نور الدمرداش، تدور أحداثه حول طبال فقير فى قرية يسخر منه الجميع، فى الوقت الذى تقع فيه سرقات تثير الذعر ولا يعرف أحد من مرتكبها، ثم تقع المفاجأة حين يتضح فى النهاية أن الطبال المسكين هو المجرم، وعرض بعد ذلك المسلسل الأمريكى «الهارب ريتشارد كمبل»، عن طبيب يتم اتهامه خطأ بقتل زوجته، فيهرب من الشرطة لكى يعثر على القاتل الحقيقى، ويجد نفسه مطاردًا طوال ثلاثين حلقة، وكانت أختى جهاد تبكى فى نهاية كل حلقة وتصيح وهى تهز قبضتها فى مواجهة الشاشة: «حرام والله كده، مش هو اللى قتل».. وقد لاحظت أن المسلسلات تعتمد بشكل عام على مبدأ التطويل والمط، فتجعل من الدقيقة ساعات كاملة، ومن الساعة أسبوعًا، بينما يقوم الفن على مبدأ التكثيف فيعرض عمرًا كاملًا فى دقيقة واحدة.. وحدث أننى فى تلك السنوات كنت أحب فتاة فى عمارتنا، ولشدة جمالها لم أكن أتجرأ على الاقتراب منها، إلى أن حدث ذات يوم واستدعانى مخرج من أقاربنا يعمل فى التليفزيون، لكى أمر مرور الكرام داخل طرقة مستشفى وأنطق بجملة واحدة: «حجرة الأستاذ حسن فين لو سمحت؟»، وينتهى دورى عند هذا الحد فلا أظهر ثانية، ولم أكن أتوقع أن تكون فتاتى قد شاهدت هذه التمثيلية، لكنى فوجئت بأنها تستوقفنى عند سلم العمارة وتقول لى مبهورة وهى تهز ذراعى: «أحمد أنا شفتك إمبارح فى التليفزيون»، وأخذنى الغرور والفرح، فقلت لها: «هو دور بسيط، بس المرة الجاية ح ابقى أدقق فى السيناريوهات»، لكن علاقتى انقطعت بعد ذلك تقريبًا بالتليفزيون والمسلسلات زمنًا طويلًا.. مؤخرًا، حاولت أن أتابع أى شىء مما يقدمه التليفزيون، من باب التعرف على ما يطرحه الجهاز الإعلامى الذى يدخل كل بيت، والأشد تأثيرًا فى وعى الناس من كل أنواع الفنون الأخرى، واخترت مسلسل «ولد الغلابة»، على قناة «mbc»، بعد أن نصحنى به صديق.. فى المسلسل نرى «أحمد السقا» المدرس العفيف يكدح بالنهار فى التعليم ويعمل بعد الظهر سائق تاكسى، ويواجه ظروفه الصعبة بنزاهة وشرف، لكنه- دون أى منطق درامى- يتحول إلى لص وتاجر مخدرات بل وقاتل، مفاجأة، نفس المفاجأة التى بدأ بها التليفزيون المصرى فى «هارب من الأيام» حين اكتشفنا عام 1962 أن الطبال هو المجرم.. هل هناك وجود لمثل هذه التحولات الشخصية فى الحياة؟ ولماذا تتعمد المسلسلات إلى محاولة إثارة دهشتنا بشخصيات وقضايا ملفقة بينما الحياة من حولنا مليئة حتى الحافة بواقع مدهش؟، وما لم يكن هدف الإثارة هو الكشف عن الحقيقة، فإنها تصبح مجرد حلية رخيصة.. لقد أيقنت فى نهاية المسلسل أن «ولد الغلابة» الوحيدون فى ذلك العمل هم المتفرجون وحدهم، وتلك هى المفاجأة.