رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رمضان.. التنميط والبرمجة والإلهاء


لا أتذكر أننى فى يوم من أزمنة رمضان جلست لأتابع واحدًا من مسلسلات رمضان، التى يبدأ الإعلان عنها بشهر قبل عرضها بطريقة غامضة، مريبة، غير كاملة، وكأنها سر عسكرى خطير، تنتظره الملايين الصائمة، وغير الصائمة، لتكشفه، وتزيل عنه الأقاويل المغلوطة والتكهنات الخاطئة.
لا أتذكر أننى فى يوم من أزمنة رمضان شغلنى التفكير، وأرّقنى التساؤل: «هل الممثلة فلانة لها مسلسل؟»، أو «هل الممثل علان عاملّنا مفاجأة فى رمضان؟».. كنت دائمًا أندهش من اهتمام الناس بمسلسلات رمضان، وجلوسهم بالساعات أمام الشاشات لمتابعة الحكايات والحواديت.. كأن العالم كله، بما فيه مجتمعنا بكل مشاكله، وأزماته، وقضاياه، وتحدياته المصيرية الجسيمة، قد تم اختصاره فى هذه المسلسلات.
ويحدث، وهذا وارد وطبيعى ومتوقع، أن يكون واحد من المسلسلات، رديئًا فكريًا وفنيًا، أو ربما الاثنين، ولكن الناس لا ينصرفون عنه، ويظلون مثبتين فى الكراسى أمام الشاشة، متشوقين للنهاية، التى بالطبع، وحسب المنطق، ستجىء رديئة فكريًا، وفنيًا، مثل بدايتها.. عندما يعلم أحد أننى لا أتابع ولا أشاهد مسلسلات رمضان، ينظر لى وكأننى كائن غريب هبط من الفضاء، أو كأننى لست «مصرية» بما فيه الكفاية، أو كأننى لا أعطى شهر رمضان ما يستحقه من اهتمام وتقدير.
«السحور.. الصيام.. الإفطار.. صلاة التراويح»، هذا هو شهر رمضان، ولكن منذ دخول التليفزيون أصبح رمضان «السحور.. الصيام.. الإفطار.. صلاة التراويح.. المسلسلات.. الفوازير.. برامج الضحك.. ذكريات النجوم».. وغيرها من الأشياء، التى ترسخ الفن الهابط المستعجل المسلوق، والضحك السخيف، وتضييع الوقت فى التفاهات، والمزيد من إلهاء الناس، وتسطيح، وتفريغ عقولهم.
أعتقد أن مسلسلات رمضان أصبحت «طقسًا» اجتماعيًا، وثقافيًا، ورمضانيًا يشبه «اللذة الجماعية» المغيبة، التى يحرص عليها الناس، حتى لو كانت خالية من اللذة، لمجرد شعورهم بأن هذا هو النمط السائد.. فأن يفكر الفرد بالطريقة نفسها التى تفكر بها الملايين، وأن يفعل الفرد الأشياء نفسها التى يفعلها الملايين، وفى التوقيت نفسه، يجعل الإنسان يشعر بالأمان، مثله مثل كل الناس، ويجعله يشعر بأنه «على حق»، و«على صواب»، لأن ملايين لديها قناعاته، وتصرفاته، وعندما يشعر الإنسان بالأمان، يشعر بالراحة، فهو ليس بحاجة إلى أن يتحمل عبء التفكير بشكل مختلف، وليس بحاجة إلى أن يدفع فاتورة التصرف بشكل مغاير.
إن مسلسلات رمضان هى واحد من ضرورات «التنميط»، وليس لها علاقة بالحرص على المرح الجميل الذى يمتع العقل، ويؤنس القلب، أو الانشغال بالفن الرفيع الذى لا غنى عنه، لسمو النفوس.. والدليل على ذلك أن الجميع يشكو من توحش الإعلانات التى تخترق مسلسلات رمضان، وكيف أنها تفسد عليهم المتابعة، ولكن لا أحد منهم يتوقف عن المشاهدة، كل يوم.
لقد أصبح التعرض لـ«قهر» الإعلانات، أيضًا، واحدًا من «التنميط»، و«التوحيد». إننى «ضحية» للإعلانات الجشعة، المتنمرة، فاقدة الذوق والحياء، لكن يوجد مثلى الملايين من الضحايا.. الذين يتحملون القهر من أجل الفرجة.. إذن لا توجد مشكلة.. هكذا يقول الشخص المثبت أمام الشاشة الرمضانية.
أما عن نفسى، فهناك أسباب أخرى، خاصة بى، تجعل مسلسلات رمضان غير جاذبة.. أولًا، أنا أصلًا لا أحب دراما المسلسلات التى تعطينى كل يوم الأحداث بـ«القطارة»، هذا ضد طبيعتى الفنية، ويناقض مزاجى المتقلب، وصعوبة احتفاظى بالشغف الأول.
ثانيًا، أنا لا أحب «الانتظار»، أحب أن أذهب أنا للفن فى التوقيت الذى يلائمنى، ويتسق مع برنامجى اليومى، واشتياقى للإبداع.
ثالثًا، لست أطيق أن يقطع الفرجة أى شىء، مهما كانت أهميته، فكيف أتحمل إعلانًا عن مسحوق غسيل، أو نوع من السمنة، أو شركة من شركات المبيدات الحشرية؟.
رابعًا، وهذا هو أصل المسألة، إننى بطبيعة تكوينى، بفطرتى السارية فى دمى «لا تستهوينى» بالمرة الأشياء «الجماعية» فى التفكير، وفى السلوك، وفى القناعات، وفى الترفيه، وفى ترتيب الأولويات.. أكره «التنميط»، أنفر من «البرمجة»، أهرب من أى محاولة، ولو حسنة النوايا، لجعلى «نسخة» من الملايين، فى أى مكان، وفى أى زمان.