رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مولانا جلال الدين الرومي.. الغارق فى بحر العشق


عرفنا فيما مضى من الأحداث أن الطفل «محمد بن بهاء الدين ولد البلخى»، الذى أصبح اسمه فيما بعد «جلال الدين الرومى»، أخذ فى طفولته الأولى من الشاعر الصوفى النيسابورى، فريد الدين العطار، كتابه «أسرار نامه»، وتنتقل الأسرة من بلدٍ إلى آخر، ولكن الإقامة فى بلاد الأغراب مُضنية تشق على النفس، لذلك لا يلبث الشيخ أن يترك بلدًا إلى بلدٍ آخر، إلى أن اطمأنّ على أسرته نوعًا ما فى الشام فيقيم فيها قليلًا، والأب ما فتئ يعلم ابنه اللغة العربية ويُحضر له من أجل ذلك مُعلمين، والصبى يتطور فى معارفه، وكتاب «أسرار نامه» لا يفارقه أبدا!. ثم يُخيّل للأب أن بغداد أكثر ملاءمة له ولابنه، فقد كانت مركزًا حضاريًا وثقافيًا ودينيًا كبيرًا، وفى حضنها عاش فقهاء وأولياء، ومشى فى طرقاتها أئمة، والشيخ العجوز يُحسن التوكل على الله، ويقول فى كل حالاته «قدّر الله وما شاء فعل» فيأخذ أسرته الصغيرة ويذهب إلى بغداد، وفيها يتقابل مع الشيخ «شهاب الدين بن عمر السهروردى» شيخ بغداد وفقيهها، ويجلس الصبى مع ذلك الشيخ الجليل الذى كان علمًا فى الفقه وعلمًا فى التصوف ويسمع منه وتتفتح مداركه أكثر وأكثر، وكأنه كان فى كل ذلك يُهيّأ لذلك اليوم الموعود.
وأثناء ذلك كان كتاب «أسرار نامه» تحت نظر صاحبنا لا يفارقه أبدًا، فقد كان، كما ذكرنا سابقًا، هدية من فريد العطار وهو أحد كبار شعراء العشق الإلهى، وكان الأب العجوز بهاء الدين البلخى كثيرًا ما كان يحكى لولده جلال عن هذا الشاعر وكتبه، ويبدو أن الصداقة قد ربطت بينهما فى سابق الزمن، وشيخنا مع رسوخ مكانته فى الفقه وعلو كعبه فى المذهب الحنفى، إلا أنه لم يكن يجد غضاضة أبدًا فى أن يكون صاحبه وصديق عمره شاعرًا صوفيًا يكتب أشعاره فى العشق الإلهى، ويكتب الكتب بأسلوب فريد وبنظم عجيب، فمثلًا كان كتابه «إلهى نامه» أى كتاب الإله، عبارة عن قصص وحوارات افترض أنه يجريها مع روح الإنسان الكامل، ولكى لا أذهب بكم بعيدًا يكفى أن أقول إن فريد الدين العطار كان هدية من الهدايا الكثيرة والعظيمة التى أهداها الله للبشرية جمعاء، وكم كانت عطايا الله لنا عظيمة.
هل كان صاحبنا جلال الدين الرومى فى الخامسة عشرة من عمره عندما بدأ يقرأ ديوان «أسرار نامه» لفريد الدين العطار؟ ربما كان فى هذا العمر أو قبله قليلًا، و«أسرار نامه» معناها بالعربية «كتاب الأسرار»، وفيه وضع العطار بعض أسرار العشق الإلهى، وقد كان العطار قد لقى ربه عندما اجتاحت جيوش جنكيز خان نيسابور، فلم يستطع العاشق صاحب رسالة الحب أن يحيا فى عالم الدماء فمات كمدًا، وما كان قلبه ليتحمل ما حدث من فظائع هذا الاجتياح، مات العطار فكان موته سببًا فى انتشار كتبه، فأسرع الصبى جلال الدين الرومى إلى النساخين فى بغداد ليشترى كتب العطار، وأخذ يقرأها على مهل، وفى مستقبل الأيام كتب جلال الرومى: «لقد اجتاز العطار مدن الحبِّ السبع، بينما لا أزال أنا فى منعطف ضيق يقع فى حارة صغيرة من مدينة الحب الأولى»، وسترى جلال الدين الرومى يبكى وهو يقرأ قول فريد العطار: «حدثت نفسى فقلت لها اطلبى الحقيقة ولا تكونى ثرثارة، فقالت لى نفسى: لا تلمنى، فأنا فى نارٍ وإن لم أنطق احترقت»، وسنفهم جميعًا الآن لماذا باح الحلاج بعشقه لله، يا لك من مسكين أيها الحلاج، ويا لهؤلاء المبغضين الذين لم يشعروا بالنار التى كانت تشتعل فى داخلك، ولكن هل لمس فريد العطار وهو الحاذق فى الطب وعلاج الأمراض ما سيكون عليه جلال الرومى فى مستقبل الأيام؟، فقد نقل الناقلون أنه عندما خرج لملاقاة صديقه بهاء الدين البلخى فى نيسابور، نظر إلى الطفل جلال وقال للأب العجوز إن ابنك هذا سيملأ الدنيا علمًا وعشقًا.
الآن يقترب الأب العجوز من السبعين، ونفسه تشتاق إلى الحج فيأخذ ابنه جلال ويذهبان، وكان شيخنا العجوز صاحب شهرة بين الفقهاء من ناحية والعارفين من ناحية أخرى، لذلك استقبله علماء مكة والمدينة وأحسنوا وفادته، وبجوار الكعبة المشرفة التقى الشيخ وابنه الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى، كان وقتها فى مكة مندمجًا غاية الاندماج فى كتابة كتابه «الفتوحات المكية»، وفى أوقات فراغه من القلم كان يجلس قبالة الكعبة يتأملها ويفكر فى حكمتها، لماذا تعبدنا الله سبحانه بالطواف حولها؟! والشيخ العجوز يتحدث مع الشيخ الأكبر ابن عربى، وصبينا جلال الرومى يجلس بينهما ساهمًا، ينظر إلى الطوافين الذين يطوفون حول الكعبة بهذا الانتظام الغريب، وبهذا العدد المنضبط، ولعله كان يفكر فى أن الدنيا هى التى تدور بنا، وأن سنة الله فى الكون هى الدوران والطواف، ولكن حول أى شىء تطوف الدنيا؟ هل تطوف حول العرش؟ ولكن هل عرش الرحمن مبنى أم معنى؟ ويظل الصبى يفكر ولكنه لا يجد فى نفسه إجابة، والشيخ الأكبر ابن عربى يلتفت بين الحين والآخر إليه ويرقب نظراته، ولعله كان يقرأ صفحة قلبه، فأولئك الناس لا يقرأون كما نقرأ، ولكن أرواحهم عندما تنطلق لتغترف من بحر العرفانية ترى ما لا يراه الناس، ونحن بالقطع نتذكر الأبيات الرائعة للحلاج التى قال فيها: «قلوب العاشقين لها عيونٌ.. ترى ما لا يراه الناظرون.. وأجنحةٌ تطير بغير ريشٍ.. إلى ملكوت رب العالمين».
ويقوم الشيخ العجوز لينصرف إلى شأنه ويسير ابنه الصبى جلال الدين خلفه، فيتبسم الشيخ الأكبر ابن عربى ويقول للجالسين معه: «سبحان الله، محيطٌ يمشى خلف بحيرة» وكانت نبوءة، ظلت كلماتها تتردد عبر القرون، ويعود الأب وولده جلال إلى بغداد، فيبحث الصبى عند النُسّاخ عما توافر لديهم من كتب محيى الدين بن عربى، ثم يجد أيضًا كتبًا للقطب الكبير عبدالقادر الجيلانى، ويشد انتباهه كتاب الجيلانى «سر الأسرار فى التصوف» فيعزل روحه عن كل الدنيا ويغرق فيها، والأب العجوز يقوم بالتدريس فى إحدى المدارس، ويمضى ليله فى حوارات مع السهروردى، والابن جلال الدين يلازمهما، ولكن بغداد تضيق بشيخنا العجوز، أو قل إنه هو الذى ضاق بها، فلم يكن يشعر أن هذه الأرض على رحابتها هى التى سيكون فيها مستقبل ابنه، والزوجة مؤمنة خاتون تؤلمها غربتها وبعدها عن أهلها، ويشتعل قلبها حزنًا على ما حدث لبلدها وعائلتها على يد المغول، ومن ذاق هذا الحزن يخاف أن ينال من المغول ما ناله الآخرون، فتحض زوجها على ترك بغداد، والشيخ يعرف أن لديها حقًا فى هذا، فالأخبار تتناقل عن الاستعدادات التى تقوم بها جيوش المغول، ولم يخفف من هذا الخوف موت جنكيز خان، وكانت موتته غريبة إذ وقع من فوق حصانه على رأسه فلقى حتفه، وإذا كان البعض قد استراح لهذا الموت، ولكن العارفين بالمغول وأولئك الذين رأوا عيونهم وهى تشتعل رغبة فى الدمار، يدركون أن المغول لن يقف أمامهم حائل، ولذلك عاد الشيخ إلى التنقل، ولكن أين سيذهب والعمرُ يُثقل كاهله؟، هذا ما سنعرفه فى الحلقة القادمة.