رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: مأزق قطب بين الدين والسياسة

جريدة الدستور

يرى سيد قطب أن حروب المسلمين الأوائل لم تكن حروبًا دفاعية، بل حروبًا لنشر الدين، ويبنى تأسيسًا على ذلك رؤيته حول فكرة «الحرب الهجومية» التى يقوم المسلم من خلالها بغزو الآخر ودفعه إلى الإسلام.. وذكر فى كتابه «معالم فى الطريق» أن محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامى تنم عن قلة إدراك طبيعة هذا الدين، وطبيعة الدور الذى جاء ليقوم به فى الأرض، كما أنها تشى بالهزيمة أمام ضغط الواقع الحاضر، وأمام الهجوم الاستشراقى الماكر على الجهاد الإسلامى.. وقد طرح «قطب» سؤالًا ملفتًا فى هذا السياق: ترى لو كان أبوبكر وعمر قد أمِنَا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانا يقعدان إذن عن دفع المد الإسلامى إلى أطراف الأرض؟.
تعكس الرؤية التى قدمها سيد قطب وهو يحاول التفلت من الطابع الدفاعى للحروب الإسلامية «وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» خضوعًا للموروث التراثى الشعبى المتعلق بالحروب التى خاضها المسلمون الأوائل.. وحين يتساءل «قطب» عن موقف أبى بكر وعمر من الفرس والروم، وكيف بادرا إلى الهجوم عليهم رغم أن الدولة كانت آمنة، فإنه لا يفرق بين مفهوم «الحرب الدينية» و«الحرب السياسية»، الحروب التى خاضها المسلمون- بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم- كانت حروبًا سياسية ولم تكن «دينية» كما ظن سيد قطب.. فالإمبراطورية العربية التى بدأت فى التشكل منذ عهد أبى بكر الصديق- شأنها شأن أى إمبراطورية أخرى- سعت إلى التوسع وإخضاع الآخرين لسلطانها، فإذا دخلوا الإسلام فبها ونعمت، وإن لم يكن أصبحوا مصدرًا للجباية المالية.. فى هذا السياق، نستطيع أن نفهم الطابع الهجومى للحروب التى خاضها الخلفاء الراشدون وخلفاء بنى أمية وبنى العباس، فقد كانت حروبًا سياسية تستهدف توسيع وتمديد حدود الدولة، وحتى تلك الحروب التى تمت تحت راية دينية، مثل حروب الردة، كانت ذات وجه سياسى بالأساس، فقد استهدفت الحفاظ على كيان الدولة الإسلامية الناشئة، ومثلت اختبارًا عمليًا لتلك المقولة التى مثلت مصدر شرعية خلافة أبى بكر، مقولة: «إن العرب لن تخضع إلا لقريش»، التى احتج بها أمام الأنصار، لكى يجعل إدارة الدولة فى يد قريش وحكامها منها، كان هدف أبى بكر الصديق من هذه الحرب محاربة «المرتدين عن الدولة» التى أصبحت مهددة بالتفكك بعد وفاة النبى، وهو أمر مشروع من الناحية السياسية.
ولو أنك تأملت نموذجًا لفتح دولة- مثل مصر- لم تكن تشكل أى خطر على المجتمع الإسلامى فستجد أن تحرك العرب إليها تأسس على أهداف سياسية واقتصادية ولم يكن له فى البداية وجه دينى واضح، والدليل على ذلك أن جمهرة المصريين ظلوا على مسيحيتهم لعدة قرون دون أن يكترث خلفاء المسلمين لذلك أو يسعوا إلى دعوتهم إلى الإسلام، لأن ما كان يهمهم حقيقة هو جمع أموال الخراج، ولو كانت المسألة دعوة للدين- كما يذهب سيد قطب- لصح أن يكتفى المسلمون الأوائل بالرسالة التى بعث بها النبى، صلى الله عليه وسلم، إلى المقوقس، عظيم القبط، وفيها: «ﺃﻣﺎ ﺑﻌﺪ، فإنى ﺃﺩﻋﻮﻙ ﺑﺪﻋﺎﻳﺔ ﺍﻹﺳﻼﻡ، ﺃﺳﻠﻢ ﺗﺴﻠﻢ ﻳﺆﺗﻚ ﺍﷲ ﺃﺟﺮﻙ ﻣﺮتين، ﻓﺈﻥ ﺗﻮﻟﻴﺖ فإنما ﻋﻠﻴﻚ ﺇثم ﺍﻟﻘﺒﻂ، ﻭﻳﺎ أﻫﻞ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﺗﻌﺎﻟﻮﺍ ﺇلى ﻛﻠﻤﺔ ﺳﻮﺍﺀ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻭﺑﻴﻨﻜﻢ ﺃﻻ ﻧﻌﺒﺪ ﺇﻻ اﷲ ﻭﻻ ﻧﺸﺮﻙ ﺑﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻭﻻ ﻳﺘﺨﺬ ﺑﻌﻀﻨﺎ ﺑﻌﻀًﺎ ﺃﺭﺑﺎﺑًﺎ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﺍﷲ ﻓﺈﻥ ﺗﻮﻟﻮﺍ ﻓﻘﻮﻟﻮﺍ ﺍﺷﻬﺪﻭا ﺑﺄﻧﺎ ﻣﺴﻠﻤﻮﻥ».. الرسالة النبوية كما ترى لا تحمل أى تهديد بعدوان، بل تحمل دعوة إلى كلمة سواء بين المسلمين والقبط.
الطمع الاقتصادى فى مصر كان واضحًا منذ فتحها فى عصر عمر بن الخطاب، وكشف عنه ذلك الخلاف الشهير الذى نشب بين عمرو بن العاص وعثمان بن عفان، عندما قرر الخليفة استبعاد عمرو من ولاية مصر وولاها عبدالله بن أبى سرح، وتمكن الوالى الجديد من جمع 12 مليون دينار من مصر بالجباية، وهو مبلغ أعجب الخليفة الثالث أيما إعجاب، ما دعاه إلى القول لعمرو بن العاص فى لقاء جمع بينهما: «درت اللقاح من بعدك»، فرد عليه الأخير: «ذاك إن يتم يضر بالفصلان».. لم يكن «عمرو» بأقل طمعًا فى مصر من «ابن أبى سرح»، لكنه كان أكثر حنكة منه، وأقدر فى السياسة، ويعلم أن العرب الجباة إذا تمكنوا من حصد هذا المبلغ الكبير فى عام فسيعجزون فى العام التالى عن جمع دينار واحد، لأن الأهالى لن تملك ما تعطيه، وليس أدل على طمع ابن العاص من أنه ظل يطارد معاوية بن أبى سفيان حتى أرسله إلى مصر، لينتزعها من أيدى ولاة على بن أبى طالب.. هذه الأحداث كلها تشهد على أن العرب كانوا مدفوعين بأهداف سياسية واقتصادية فى اللحظة التى قرروا فيها فتح مصر، ما يشهد على أن الكثير من الحروب التى خاضها المسلمون الأوائل كانت سياسية أكثر منها دينية.