رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"ولى ومريد"..

شمس التبريزى.. الباحث عن صاحب الوجه المخفى


عرفنا فيما مضى من الأحداث أن الصبى «محمد بن علاء الدين التبريزى» كان دائم الشرود، كثير الانزواء بعيدًا عن الناس، وقد لفت نظر أبيه أن صغيره كان يرى الرؤى التى كانت سرعان ما تتحقق، فذهب به أبوه إلى أحد الصوفيين من الذين احترفوا صناعة السلال؛ ليسبر غوره ويعرف حقيقة رؤاه ويرشده إلى الطريق، وكبر الطفل وأصبح فى صدر الشباب، وأخذ كل ما يستطيع الحصول عليه من الصوفى أبى بكر السلاَّل، ولكن شغف صاحبنا للمعرفة لا يزال يتلوى فى داخله، وصاحبنا ما إن يجلس إلى أستاذ حتى يصبح أعلى منه، وقد كتب هذا الصبى حين أصبح كبيرًا عن شيخه أبى بكر السلال هذا، فقال: «كان لى شيخ اسمه أبوبكر بمدينة تبريز، كان يصنع السلال، وقد تحصل لى منه الكثير من الإفاضات، ولكن كان بأعماقى شىءٌ لم يكن شيخى يراه»، ولذلك آن الأوان لأن يترك شيخه ويُحلق فى البلاد، فالرؤية الغريبة التى رآها تكاد تحرق قلبه، فكما تعلمون كان قد رأى نفسه فى المنام وهو يحمل نورًا ويضعه فى قلب رجلٍ لا يعرفه ولم ير وجهه! أين هذا الرجل؟ وكيف يصل إليه؟ وما هو ذاك النور الذى سيضعه فى قلبه ليصافح جوانحه؟ لذلك قرر الشاب أن يترك مدينته تبريز ويجوب البلاد ليبحث عن هذا الرجل صاحب الوجه المخفىّ.
سمع صاحبنا عن شيخ صوفى اسمه «أبوالغنائم غنيمة بن المفضل ركن الدين السجاسى» وكان يلبس خرقة الصوفية، وكان أحدهم قد قال لصاحبنا إن هذا الصوفى هو أحد الأقطاب، وإنه كان من تلاميذ القطب الأكبر محيى الدين ابن عربى، وكانت شهرة محيى الدين ابن عربى قد طبقت الآفاق، ونشط النُسَّاخ فى نسخ كتبه، وصاحبنا يشترى الكتب ويقرأ، ويفكر فى نفسه، هل محيى الدين ابن عربى هو الرجل صاحب الوجه المخفى؟! ولكن كيف السبيل إليه؟ فابن عربى كما وصلت الأخبار كان دائم التنقل من بلدٍ إلى آخر، إذن فليكن الطريق الأول أن يذهب صاحبنا إلى ركن الدين السجاسى ليأخذ منه ما لديه من فيوضات، ويبحث صاحبنا عن السجاسى فى بلده سِجاس، وهى بلدة صغيرة من قرى سُهرورد، تقع بالقرب من مدينة همذان الفارسية، وكانت قرية سجاس هذه قد نالت شرف الكتابة عنها شعرًا من الشاعر الأشهر «البحترى» صاحب «أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا»، وقد جاء ذكرها فى قصيدته «كالبدر يأتلق الضياء» وفيها قال: وقطعتُ أطوالَ البلادِ وعرضَها.. ما بين «سندانٍ» وبين سِجاسِ.
وعثر صاحبنا على الشيخ «السجاسى» وصاحبه عدة أشهر، وتعلم منه، لكنه وجده كسابقه، لم يرو ظمأه، ولم ير ما بداخله، وكيف لجدول ماءٍ أن يروى ظمأ نهر؟! أو كيف لبحيرة أن تستوعب محيطًا؟! ولكن ما الطريق إلى محيى الدين ابن عربى؟ بعد مئات السنين كتب الروائيون فى رواياتهم الأدبية أن صاحبنا التبريزى التقى محيى الدين ابن عربى، وإذا كان البعض قد اعتقد أن هذا اللقاء كان من شطحات خيال الروائيين، لكننا لا نعلم إلا ما نراه، وما خفى عنا نجهله، وإن لم تكن الأبدان قد تلاقت فإن الأرواح تعارفت وتآلفت وتلاقت وتحاورت، وإذا استشرفت تلك العوالم الخفية، وتلك الأطياف والأحلام النقية، سيرد فى بالك فورًا أن محيى الدين ابن عربى، لا بد أن يكون قد التقى صاحبنا، وأعطى له علامات وإشارات تقوده إلى صاحب الوجه المخفى، فمما يُروى عن محيى الدين ابن عربى أنه رأى فى أحد الأيام وهو بمكة طفلًا يسير وراء رجل، فتبسم وقال: ما شاء الله، محيطٌ يمشى وراء بحيرة!. فهل ذلك الطفل هو الرجل صاحب الوجه المخفى؟ ولكنه الآن لا يزال طفلًا، أو لربما كان بالكاد قد وُلِدَ، ويجب أن تتم تهيئته أولًا ويبلغ مبلغ الرجال؛ ليكون جديرًا باستقبال النور، فماذا سيفعل صاحبنا الذى وصل إلى الثلاثين من عمره؟
أظنكم عرفتم أن صاحبنا هو ذلك الحلم الجميل الذى مر على دنيانا ثم اختفى، نحن أيها الرفاق مع «شمس الدين التبريزى»، فهو محمد بن علاء الدين بن ملك التبريزى، وقد كان معاصرًا لأبى الحسن الشاذلى، ولكنه كان أصغر منه بأحد عشر عامًا، ومعاصرًا لمحيى الدين بن عربى، ولكنه كان أصغر منه بأربعة وعشرين عاما، ومعاصرًا لأبى العباس المرسى، ولكنه كان أكبر منه بأربعة وثلاثين عاما، ومات شمسنا قبل أن يولد ابن عطاء الله السكندرى، كل هؤلاء وغيرهم كانوا فى الدنيا فى وقت واحد، فهل بخلت علينا الدنيا بأمثالهم؟! لم تبخل ولكن الناس رفعوا أحجارًا صماء وظنوها كواكبهم، فاستدارت الكواكب وقالت نحن إلى الخفاء أحوج ومن أرادنا فليلتمسنا.
ولكى تعرفوا حالة شمس الدين التبريزى منذ طفولته اقرأوا ما كتبه: «سألونى فى طفولتى لماذا أنت مهموم؟ هل أنت بحاجة إلى ملابس أم إلى المسكوكات»؟ والمسكوكات هى القطع النقدية التى يتم سكها، فقال لهم شمس: «ليتكم تأخذون هذا الثوب الذى يكسونى»، هذا حال إنسان منذ طفولته وهو يعيش حالة عشق فريدة لله رب العالمين، والذى يكتوى بنار العشق لا يستطيع البقاء فى مكان واحد، والحق أنه لا يحب السير فى الطرقات، ولكنه يحب الطيران فى السماوات، ولذلك أخذت قدم العاشق شمس التبريزى تحمله من قرية إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، يرتدى ثوبًا خشنًا أسود اللون، وينام تحت الأشجار، أو فى «الخانقات» والخانقات هى البيوت التى يقيمها الحكام؛ لتكون مأوى للدراويش، الذين يرتحلون من مكان لآخر، وقد كانت بمثابة مدرسة للصوفيين، وهى عبارة عن سكن لهم ومسجد يقيمون فيه الصلاة، وجاب شمس بلاد فارس كلها، ثم ذهب إلى الشام، وجلس هناك مع كبار العلماء والصوفيين، وسمع منهم، وتكلم معهم، وكان ينظر إلى وجوههم لعل أحدهم يكون صاحب الوجه المخفى، ولكن روحه كانت ترشده، ليس أحدًا من هؤلاء يا شمس.
سنوات وسنوات، وترحال، من الشام إلى بغداد، ومن بغداد إلى مصر، وأخذ يزور قبور الأولياء، ويدخل الكنائس، ومعابد اليهود، ويذهب إلى بلاد الهند، ويجلس مع كهنة البوذيين، وينام فى الكهوف، ويشارك النُسَّاك والزهاد فى تأملهم، ويبكى أمامهم من فرط ذلك العشق الذى استولى على مجامع قلبه، ولكننا ظلمنا هذا العاشق كثيرًا، فقد نقل لنا أصحاب النقل أنه كان يتكسب رزقه من قراءة الكف، وتفسير الأحلام، ولم يأت واحدٌ من الذين قالوا هذا بنقل موثق يمكن أن نستند إليه، وقد غفل الرواة عن أنه كان يتقن صناعة السلال التى تعلمها من شيخه الأول أبى بكر السلال، كما غفلوا عن أن «الخانقات» كانت تتكفل بطعام الدروايش والصوفية، إذ كانت لها مخصصات مالية من الحكام والأغنياء، وقد ظلمناه عندما صدَّقنا الرواة الذين قالوا إنه كان درويشًا من الدراويش، لمجرد أنه كان يبيت أثناء ترحاله فى خانقات الدراويش، وقد جنح الخيال بالروائيين فأثبتوا عليه الدروشة، والحقيقة أنه كان يزدرى حال الدراويش، ويأنف من طريقتهم، ويراهم أبعد الناس عن الله، كيف ذلك؟! هذا ما سنعرفه فى الحلقة التالية.