رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"إسلاميات كاتب مسيحى ٢٠"..

محمد الباز يكتب: كيف وقع نظمى لوقا فى غرام أبى بكر الصديق؟

جريدة الدستور

- نظمى: خليفة المسلمين الأول لم يسجد لصنم قط قبل الإسلام رغم أنه نشأ فى عاصمة الأوثان مكة
- المفكر الراحل: أبوبكر من معدن شديد النقاء وهو رجل تُعز به «دولة العقيدة»

لما يقرب من عشر سنوات بعد صدور «محمد الرسالة والرسول» توقف نظمى لوقا تقريبًا عن دراساته الإسلامية، لكنه لم يغادرها أو تغادره.
كان رد الفعل العنيف الذى قابله بعد محاولته الأولى لإنصاف الإسلام ورسوله كافيًا جدًا لأن يقلع عن مجرد الاقتراب من هذه الساحة مرة أخرى، ويبدو أنه قرر ذلك بالفعل، فقد تفرغ للترجمة وكتابة الروايات والقصص القصيرة، ولا تتعجب إذا قلت لك إن نظمى كان يداوم على ما يمكن أن نعرفه بالنقد التليفزيونى، وله فى ذلك عدة مقالات، سيكون مهمًا أن نعرض لها، لكن فى مكانها المناسب.
لكن ولأن دخوله إلى مساحة الإسلاميات لم يكن مجرد نزوة فكرية، بل محاولة لتأكيد مذهبه «الفلسفة التعبيرية»، فقد عاود مرة أخرى طرق أبواب محمد وأصحابه.
فى العام 1969 عاد نظمى لوقا إلى المواجهة، فكان كتابه «أبوبكر حوارى محمد».
ستقول لى إنه كان من المنطقى أن أستعرض معكم حكاية نظمى لوقا مع النبى محمد وصديقه أبى بكر الصديق، قبل الحديث عن كتابه «محمد فى حياته الخاصة» الذى صدر فى العام 1969، أى بعد عام من كتاب «أبوبكر».
وهو كلام صحيح لو كنا نتعامل زمنيًا مع ما كتبه نظمى، لكننا نتحدث هنا عن الفكرة، عن المذهب والفلسفة... عن الحالة الفكرية التى يمثلها نظمى فى مجالنا العام.
ولذلك كان مهمًا أن نرصد رؤيته للنبى محمد، صلى الله عليه وسلم، ليس الرسول فيه فقط، ولكن الإنسان أيضًا.
قبل أن يضع نظمى لوقا تنبيهه المعتاد قبل أى كتاب له فى الإسلاميات، من أن مؤلف هذا الكتاب مسيحى المولد والمعتقد، حرص على تصدير بعض آيات الإنجيل، وكأنه يقدمها هدية بين يدى أبى بكر.
«لأن كل شجرة من ثمرها تعرف»... إنجيل لوقا 44:6.
و«لأن من الثمر تعرف الشجرة».... إنجيل متى 33:12.
وكأنه كان يشير إلى خلاصة وجهة نظره فى هذه الشخصية التى كانت فارقة فى الإسلام وتاريخه بالفعل.
وبحكمة لا تفارق نظمى لوقا إلا قليلًا، يختار أن يُهدى كتابه إلى صديقه أحمد صلاح الدين عفيفى الذى يصفه بأنه الأخ الصادق الإخاء على اختلاف ديانتيهما.
لكنه لا يغفل الأحق بكلامه، هؤلاء الذين يهديهم كتبه كلها تقريبًا، وهم السائرون فى الظلمة ومن يلوح لهم من أنفسهم فجر جديد.
قد لا يكون للسؤال عما دفع نظمى لوقا للكتابة عن أبى بكر الصديق محل من الإعراب.
فما دام أنصف نبى الإسلام، فمن الطبيعى جدًا أن يصل هذا الإنصاف إلى رجالات الإسلام الآخرين، وعلى رأسهم الرجل الثانى الذى يأتى مباشرة بعد النبى... ولذلك فسؤال العلة ينتفى تمامًا، وسيكون من تبديد الوقت البحث عن إجابة له بعيدًا عما قاله نظمى نفسه.
يمهد الفيلسوف لنفسه بين يدى أبى بكر.
يقول: التعريف بما هو معروف تحصيل حاصل، أدخل فى باب الهذر الفارغ منه فى أى باب من أبواب المعرفة وفنون الفكر والأدب، وأبوبكر بن أبى قحافة الخليفة الإسلامى الأول، والصحابى الصديق، علم فى رأسه نار، يعرف الناس مكانته وفعاله معرفتهم الشمس فى رائعة النهار، فأى حاجة بكاتب مثلى يأتى بآخرة من الدهر يكتب عنه هذه الصفحات القصار؟
السؤال الذى يتطوع نظمى بطرحه، يعود ويتطوع بالإجابة عنه أيضًا.
والإجابة هنا تحيلنا إلى مناقشة الغرض من كل سيرة، والغاية من كل دراسة للشخصيات المشهورة.
فكل ذى شهرة إنما يعرف الناس له ماذا «صنع» ولكن ليس القصد من كل كتابة عن الأعلام أن نعرف «ماذا» صنعوا، فقد تكون الكتابة عنهم لنعرف «كيف» صنعوا هذا الذى صنعوه بالذات، ولماذا؟ ولا يراد بذلك فى جميع الأحوال معرفة حقيقة الأفعال وأسرارها وأساليبها، بل يراد شىء وراء هذا كله وأبعد منه منالًا، يراد الإيغال فى حقيقة الشخصية ذاتها، والتسلل إلى مكامنها، فنعرف مَن يكون فلان هذا، ولا يكون قصارنا أن نعرف ماذا صنع فلان.
ولأن الأحداث لا تكتسب وزنها الحقيقى إلا لأنها موصولة بحياة الناس ومصائرهم، فالإنسان الفرد والإنسان المجتمع والإنسان النوع، مقياس كل جليل من الأمور والحوادث وهو غايتها القصوى فى الوقت نفسه، ومن أجل الإنسان وفى ضوء فهم تكوينه وأسرار نفسه وسلوكه، يجب أن يكون اهتمام الدارسين الأكبر بأحداث التاريخ.
يقول نظمى: فى هذه الحدود نفسها استوجب أبوبكر أن نكتب عنه، كتابة تقوم على المصاحبة اليقظة، والتأمل النافع فى جميع الأحوال، ودراسة السلوك والأخلاق التى تطلعنا على المنابع الخفية لتلك المواقف الخطيرة فى حياة الأمة العربية فى مرحلة من أدق مراحلها.
فهى إذن صحبة نفس فى محياها المعروفة لنا معالمه وسماته وآثاره، واستكناه خبيئتها كى تتكشف لنا مرحلة مرحلة مع أطوار العمر وتباين المواقف وطوارق الأحداث.
هى مرحلة فهم إذن، تتعقب الظاهر إلى أصوله الباطنة، كما يتعقب الفاحص الفروع فى النبات إلى جذوره الغائرة، وهو شوط يصطحب فيه الكاتب القارئ معا فى ذلك الجهد الصادق للصعود إلى سماء الحقيقة من صعيد المحسوس المألوف، صعود من يتلمس الطريق، ويتثبت ما استطاع لموطئ قدمه، ويستعين العقل كله على السداد، وكأين ما يصل إليه هذا الجهد، فهو- وإن قل- ثمرة سعى وحصيلة برهان ووليد تبصر وإمعان.
وهذا ما عقدنا العزم عليه.
مضى نظمى لوقا مع أبى بكر الصديق فى رحلة طويلة، خرج منها إلى خلاصة مهمة جدًا، وهى أن أبا بكر فى مجموع صفاته النفسية وسلوكه نمط على طرف النقيض من نمط رجال كثيرين يكتظ بهم تاريخ الأمم على اختلاف لغاتها وأديانها.
فأبوبكر مثال الرجل الذى تُعز به دولة العقيدة، وأولئك أنماط الرجال الذين تنحل بهم سطوة العقيدة.
أبوبكر وهب حياته للمبدأ.
وأولئك جعلوا من المبادئ متجرًا ومرتزقًا.
أبوبكر من معدن نادر شديد النقاء.
وأولئك من معدن شائع شيوع الرمال فى الصحراء.
فلئن قال قائل إن ما كتبه نظمى سيرة حياة من حيث هى صورة قلب.
أو قال قائل إنها دراسة فى الحب.
فالقولان لدى نظمى سيان، لأن الحب الفذ كان لباب اللباب من ذلك الإنسان.
لن أتوقف هنا عن السيرة وحوادثها، ولا حتى الوقائع التى سجلها التاريخ باسم أبى بكر، يهمنى أكثر قراءة نظمى لشخصية أبى بكر وسماته.
لقد أمسك الفيلسوف أول ما أمسك بصفة مهمة من صفات أبى بكر وهو أنه كان عارفًا بالأنساب.
وحتى يكون عارفًا بالأنساب، فلا بد أن يكون حسن المدخل عند الناس، حصيفًا فطنًا، كثير الأناة، يتجمل بالصبر والبشاشة والدماثة التى تؤلف القلوب، ولا تستثير العدوان وتستل السخائم، ولا ينفى ذلك كله أنه كان حازمًا يعرف أين تنتهى الملاينة والمسايرة، وأين يجب أن يقف فلا يتزحزح وإلا خسرت تجارته أو استخف به من يتعامل معهم فيذهب ماله ضياعًا.
وعند خليقة الحزم هذه التى تمتع بها أبوبكر، التقت خلائق الحرص واستدبار العواقب والبصر بدخائل الناس، وحسن الخروج من المواقف قبل أن تتأزم، وحفظ السمت حتى لا تسقط الهيبة بالتبسط والدعاية والبعد عن مباذل الفجور والخمر والميسر، وإلا تعرضت التجارة وهى محدودة للإفلاس، فلا يسهل تعويضها أو تجديدها برأس مال مستحدث، وتلك كلها مما يحفظ المروءة ويستلزم الوقار مع البشاشة، وتستلزم كذلك التفكير العملى الذى لا يجد ضيرًا فى التساهل استبقاء للمودة، لأن من ليس عميلًا لا بأس أن يكون عميلًا فى يوم من مقبل الأيام، فإحدى عينيه على اجتناب الخسارة، وعينه الأخرى على ربح مأمول، إن لم يكن عاجلًا فهو آجل.
كان أبوبكر كذلك رجلًا منضبطًا، لا يسرع إلى الغضب والشحناء، ما لم يكن له عن ذلك بد لحماية الكرامة أو حماية المال، لأن التهور غير مأمون العواقب، فلا عدد فى العشيرة يرهب، ولا سلطان لها يخيف، ولا يكون بعد التهور فى هذه الحالة إلى تحمل الثأر أو الإهانة بغير قدرة على الردع، وليس أضيع للعربى من هذا الهوان.
ويأخذ نظمى من ملامح أبى بكر الشكلية دليلًا إلى الدخول على شخصيته.
كان أبوبكر «أبيض نحيفًا خفيف العارضين أحدب، لا يستمسك إزاره، يسترخى على خصره، معروق الوجه، قليل اللحم فيه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، أرى أصول الأصابع التى تتصل بظاهر الكف».
هذا التكوين الجسمانى- الذى نقله نظمى عمن وصفوا الصديق- ظاهر فيه المزاج العصبى، وفى مظهره الذى تقتحمه العين ما يدخل فى حساب العوامل المشددة عند حساب صفاته الخلقية وسجاياه وأسلوب تعامله، كيان صغير لو انطوى على طبع فاتر أو مزاج بارد لكان مخلوقًا صغير الظاهر والباطن، كالأرنب تقتحمه العين ولا يقف عنده ذو بصر ولا بصيرة.
أبوبكر كان فى كل ما عرف عنه ذا طبع جياش ومزاج حار، ظاهره ساكن وباطنه محتدم الأوار، وظروف قبيلته ومهنته تحمله حملًا على أن يلتزم حدودًا مأمونة فى سلوكه وتعامله مع الناس، ومن هنا جاءت أهمية ضبط النفس الشديد بالحزم الحازم والنهى الصارم. من الصفات التى صاحبت أبا بكر من الجاهلية إلى الإسلام- كما يرصد نظمى- أنه كان مشهورًا بصدق القول والوفاء بالعهد، يقيد به نفسه حتى عندما تكون له فرصة من التحرر منه، لو أنه رام ما يبرر به أمام نفسه وأمام الناس ذلك التحلل.
ولم يكن أبوبكر يدفع أحدًا إلا بالتى هى أحسن، اللهم إلا أن يكون الأمر متعلقًا بما لمطلق معنى الحق من قداسة، وأن يكون التطاول فى استخفاف لا بشخص أبى بكر بل بسلطان يمثله أبوبكر، وفيما عدا ذلك فهو إلى المسالمة وخفض الجانب، ولقد يتحرش به الرجل من الأجلاف فلا يرى ذلك شيئًا ولا يحسبه مدعاة للغضب.
قال له رجل ذات مرة: لأسبنك سبًا يدخل معك قبرك.
فما زاد أبوبكر على أن قال: بل معك والله يدخل... لا معى.
وقد يقال: إن هذه الدماثة رويت عن أبى بكر فى الإسلام؟
فيرد نظمى: لا يكون الرجل فى الإسلام على سجية نفسية تناقض سجاياه الأصلية، إنه قد يتغير بالكف عن هذا الأمر أو ذاك بسبب التحريم، أما أسلوب معاملة الناس مما ليس فيه تحريم فمرجعه إلى طبيعة النفس ذاتها أو المزاج النفسى، فالرقيق يكون رقيقًا، والخشن يكون خشنًا، والبخيل بخيلًا، والكريم كريمًا، والحساس للجمال حساسًا للجمال وهلم جرا.
من أهم ما يذهب إليه نظمى لوقا فى تناوله شخصية الصديق أبى بكر، هو أن الرجل كان ظاهرًا وباطنًا.
ويبدأ بسؤال: هل كان فى حياة أبى بكر فى الجاهلية ما أتاح لدماثته وصبره هذا الامتحان الثاقب؟
والإجابة: قليل من أخبار جاهلية أبى بكر ما أتانا فى هذا السبيل، ولكنه القليل الذى ينبئ عن كثير، وفى تأمله ما قد يحدثنا بأن دماثته لم تكن مثل سائر الدماثة انسياقًا محضًا وباطنًا خاويًا من كل ما يخالف الظاهر المألوف فيه، وفيمن حوله من أترابه وأهل عشيرته الأقربين والأبعدين.
خذ عندك مثلًا أن أبا بكر نشأ فى عاصمة الأوثان مكة، ولكنه لم يكن ممن انساقوا مع التيار، فلم يعكف، كما عكف أهل بيته، على الأوثان، وفيما وصل من خبره أنه لم يسجد لصنم قط.
وتحدث هو عن ذلك فقال: لما ناهزت الحلم أخذ أبوقحافة بيدى فانطلق بى إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لى: هذه آلهتك الشم العوالى، وخلانى وذهب.
فدنوت من الصنم وقلت: إنى جائع فأطعمنى، فلم يجبنى الصنم.
فقلت: إنى عارٍ فاكسنى، فلم يجبنى.
فألقيت عليه صخرة فخر على وجهه.
وقد تصدق هذه الرواية بحروفها أو قد لا تصدق، ولكن مدلولها يبقى ناطقًا لواقع الحال الذى وصل إليه أبوبكر.
الأمر الذى لا وضع للشك فيه أن أبا بكر المسلم لم يكن خلقًا طارئًا لا عهد للعالم به قبل اعتناقه الإسلام، هو امتداد على نحو متطور لأبى بكر الجاهلى، بل إنه ما كان ليسلم على النحو الذى أسلم به إلا أنه ذلك الشخص المعين بالذات الذى عرفه الناس فى الجاهلية، فمكونات شخصيته وهو جاهلى هى التى حددت أسلوبه فى مواجهة الإسلام.
ولو لم يكن أبوبكر ذا تكوين معين فريد فى جاهليته لما كان موقفه من الإسلام، ذلك الموقف الذى تفرد به، وحين تعوزنا معرفة كافية بجذور الشجرة لن نضل إذا التمسنا معرفة نوعها وصفاتها من الثمرة التى تتمخض عنها، لأن من الثمر تعرف الشجرة... كما قال المسيح فى موعظته المشهورة.
هل عرفتم لماذا اختار نظمى أن يبدأ كتابه عن أبى بكر بكلمة للسيد المسيح؟
لقد فعلها لأن الكلمة تنطبق تمامًا على أبى بكر وسيرته وآثاره.
وحتى يتضح هذا التكوين الفريد لأبى بكر، كان لا بد لنظمى أن يبدأ بعلاقته بالأصنام قبل الإسلام، تلك العلاقة التى انحدرت عنها الرواية الشهيرة التى كلم فيها الأصنام ولم ترد عليه.
ففى رواية ابن هشام أن النبى قال عن إسلام أبى بكر: ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ونظر وتردد، إلا ما كان من ابن أبى قحافة، فما عكم (أى ما انتظر) حين ذكرته له وتردد فيه.
هذا شأن رجل أضمر للأوثان ازدراءً عميقًا عاشه أمدًا طويلًا، ومحال أشد المحال أن يكون تصرفه هذا من وحى الساعة بغير مقدمات وتمهيدات سابقة.
أما عن دماثته فى الجاهلية فلم تكن دماثة انقياد ومحض تعلق بناس وتحبب إليهم لكان حريًا أن يعرض عن دعوة تورثه عداء الناس، وتقطع ما بينهم وبينه من ألفة وتواد، ولكنها دماثة الباطن السخى الثرى الذى تفيض منه المودة عن إحساس عميق بالإخاء الإنسانى وعن سعة أفق وبعد عن الأثرة، إنها دماثة الوجدان الحار والعاطفة الدافقة والماسة للخير والرحمة.
بالنسبة لنظمى لوقا فإن هذا هو التفسير الوحيد المقبول لدى العقل لإقدام أبى بكر بغير تردد على تعريض كل علاقاته الدمثة للخطر والمجازفة بالمودة والألفة اللتين عاش فى ظلالهما إيثارًا لأى شىء؟
إيثارًا لما كان عنده على الدوام، وإن خفى عن عيون الناس التى تتجاوز الظاهر، أرجح من الدماثة ومن الأشخاص إيثارًا للقيم التى أحسها وأحس أن الأوثان هيهات تمثلها، وإنما هى تسد الطريق إليها، وتشغل الناس بالأباطيل والترهات.
السؤال الذى يحتاج إلى مزيد من إيضاح هو: لماذا أسلم أبوبكر بلا تردد؟
يقول نظمى: هناك اتفاق على أن أبا بكر كان أول من أسلم من خارج خاصة أهل بيت محمد، كما أنه لم يتردد ولم يجادل، بل أسلم من فوره منذ عرض عليه النبى العقيدة الجديدة، وهناك اتفاق أيضًا على أن أبا بكر لم يكن بالغر الساذج الذى له من حداثة السن نزق أهوج، فاندفاعاته وهو فى السابعة والثلاثين أو ما يجاوزها بشهور اندفاع ذى بصيرة يدرى ما يفعل.
وهنا يأتى سؤال آخر: ما سر هذا الإسراع الذى يمكن أن نصفه بالاقتحام ولا يكفى فى وصفه الاندفاع؟
يجيب نظمى: هذا الوقور الألوف المحبب إلى قومه لا يمكن إلا أن يكون قد لمح من كل عناصر الموقف فى فطنة، وما كان يضيره أن يتريث ويتدبر إن استطاع ولكنه أقدم... بل اقتحم.
ولا تفسير يقبله العقل أمام هذه الموانع الشتى، إلا أن يكون قد جرفها دافع من نوع آخر.
دافع أقوى من هذه الموانع.
فلم تقف أمامه طرفة عين، وكأن طوفانًا عارمًا اكتسح السدود على كثرتها فلم تتبق منها باقية، هذا العامل المضاد لجميع الموانع، المباين لها فى النوع والكنه وكلها موانع مادية واجتماعية واضحة ظاهرة لا بد أن يكون عاملًا نفسيًا باطنًا.
وهنا نجد أنفسنا أمام طبيعة أبى بكر الجياشة وعاطفته التى تستثار فتملكه ولا يملكها، وبهذا وحده، نعقل إسلام أبى بكر على الوجه الذى أسلم به متميزًا بل متفردًا، فهو قد أسلم، لا عن انتفاء الموانع بل على الرغم من تنوع الموانع وسطوتها.
أسلم أبوبكر لأن العقيدة الجديدة استثارت عاطفته الجياشة، فكأنما وجد فيها نفسه بعد طول افتقاد، ورأى الدنيا فى جانب بكل ما فيها ومن فيها من العلائق والمنافع، ورأى نفسه الحقيقية فى جانب آخر، فاقتحم مندفعًا إلى الجانب الذى وجد فيه حقيقة نفسه، ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟
مرة أخرى يستعين نظمى بما قاله السيد المسيح، وهو يصف الكلمة هذه المرة بقوله «وما أصدقها»، ليس لأن المسيح قالها فقط، ولكن لأنها تنطبق تمامًا على أبى بكر.
يعود نظمى مرة أخرى إلى ما يمكن اعتباره الدخول المقتحم للإسلام، والذى قام به أبو بكر.
يقول نظمى عنه: نراه يوازن بين الموانع والموجبات ويرجح بينها، فكأنها عنده متقاربة القيمة يحتاج إلى وقت ومراجعة ليتبين أى الجانبين يمكن أن يكون عنده الرجحان، وهذا فى حد ذاته لو أنه حدث يجعل أبا بكر ليس أبا بكر، يجعله شخصًا آخر يمكن أن تنعقد عنده مقارنة تتضمن التقارب بين قيمة كل ما تمثله الدنيا وبين ما يمثله الدين الجديد من قيم، ومثل هذا الشخص لا تكون له العاطفة الجياشة التى اجتمعت لأبى بكر.
أما وأبوبكر هو أبوبكر.
فما كان ليسلم إلا اقتحامًا على نحو ما أسلم، ما تردد وما كبا وما عكم.
ولو أنه تردد ووازن لكان معنى هذا أن العقيدة الجديدة لم تستثر عاطفته الجياشة، ولصار أمر الترجيح على مستوى واحد من قياس المنافع والمضار.
وعلى هذا المستوى كان الأحرى أن يكون للموانع المتنوعة أشد الرجحان، بما يمثله التزامها من منفعة وأمان، وما ينذر به الخروج عليها من القوارع والخسران.