رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولى ومريد

ابن عطاء الله السكندرى‪..‬ الشاب الفقيه


قالها حافظ إبراهيم ذات يوم وهو يتحدث عن اللغة العربية: «أنا البحرُ فى أحشائه الدرُّ كامنٌ.. فهل ساءلوا الغواصَ عن صدفاتى» وبحرُ الحقيقة لا تُحيط به لغة، ولا تدرك عمقه تصوراتُنا، وكلما غاص الغواصُ فيه ونزل إلى عُمقٍ من أعماقه، رأى عجيبة من عجائبه، ولؤلؤة من لآلئه فيشفق على من لم يرَ هذا الجمال، أما الواقف عند شاطئه فمُحال أن يُدرك ما فى الأعماق من كنوز أو حتى يتصورها.
الغريب أننى عندما تتبعت سير الأولياء وجدتُ معظمهم عاش بجوار بحر أو نهر، عبدالسلام بن مشيش كان بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسى، وأبوالحسن الشاذلى كان كذلك، وأبوالعباس المرسى وُلِدَ فى مرسية فى الأندلس، ومرسية تقع على شاطئ المتوسط ويشقها نهر شقورة، ومحيى الدين بن عربى كان من مرسية أيضًا، وعبدالقادر الجيلانى وُلِدَ على ضفاف بحر قزوين، ولو قمنا بالإحصاء ما وسعنا الجهد، فهم بين البحار والأنهار، وبعضهم نشأ فى أودية الجبال، وأنت ترى ظاهر الجبل وقد تهوى الصعود إلى قمته، ولكنك مع ذلك لن ترى باطن الجبل إلا إذا دخلت مغاراته وكهوفه. أقول هذا لأننى أعلم أن البحر كان له الأثر الأكبر فى التكوين النفسى والمشاعرى لابن عطاء الله، وكان الأثر الآخر هو موت أبيه، والموت له ظاهر وباطن، ظاهره نراه عندما يفقد أحدُهم حياته، ولكن باطنه غيب لا يستطيع الناظر إلى ظاهره أن يعرفه إلا إذا غاص فى بحر الحقيقة، فيكشف اللهُ له من حُجب الغيب ما يكشف.
نعود إلى قصة مولانا ابن عطاء الله حينما كان فى مهد الطفولة، لنراه وهو يمسك بيد جده الشيخ الوقور «عبدالكريم بن عطاء الله الجذامى» وهما فى طريقهما إلى قاضى قضاة الإسكندرية وفقيهها الأكبر «ناصر الدين بن المنير الجذامى» وهو ابن عم لهذا الجد الوقور، كان الجد يحدوه الأمل فى أن يصبح حفيده فى مستقبل الأيام أحد كبار علماء الشريعة فيرى فيه ما لم يره فى ابنه الذى مات وهو فى مقتبل الشباب، وطالما أن هذا الطفل النجيب حفظ القرآن وأصبح بارعًا فى النحو والصرف، وتفوق على أقرانه جميعًا بل ونال قصب السبق على شباب أكبر منه استووا على أرض المعرفة، طالما أن هذا كله قد حَصل فلماذا لا يكون أستاذه هو شيخ الإسكندرية الكبير الذى قال عنه سلطان العلماء العز بن عبد السلام إنه: لا يوجد فى مصر من أئمة الفقه إلا ابن دقيق العيد فى الصعيد وناصر الدين الجذامى فى الإسكندرية، ولأن ذلك الفقيه الكبير لا يقبل تلميذًا فى هذا العمر الصغير لذلك كان من الطبيعى أن يُجرى له امتحانًا حتى يقبله، ولو عرفنا طبيعة هؤلاء العلماء لعرفنا أنهم فى العلم لا يعرفون قريبًا أو نسيبًا أو صهرًا، ولكنه الاستعداد والذكاء والنبوغ، إلا أننى أسألكم وأسأل نفسى: هل البيئة البحرية تترك فى أهلها صفاء ذهن وجلاء بصيرة وحدة فى الذكاء؟ فقد توافرت كل هذه الصفات فى طفلنا الصغير، فكان أن قَبِلَ الشيخ الفقيه أن يُدخله فى زمرة تلاميذه ويتعهده بالرعاية.
وبدأ «أحمد» يرتقى فى الفقه، ويبرع فى علم الفرائض «المواريث» ويتفوق فى تفسير القرآن وفى علوم الحديث، ولكنكم ستعرفون أن كل ما أتقنه كان عن طريق الحفظ، لذلك أطلق عليه بعضهم لقب «الحافظ أحمد بن عطاء الله» فقد حفظ ما كتبه المفسرون الأوائل، وعن ظهر قلب حفظ كل شىء فى المذهب المالكى، أما علم الحديث فقد كان يمكنه بنبوغه أن يجمع كتابًا يُطلق عليه «صحيح ابن عطاء الله»، وبدأ «أحمد» يدخل إلى شبابه الأول وهو لا يعرف إلا «المنقول»، إلا أنه كانت هناك لمحات تُنبئ عن مستقبل فتانا النجيب، فقد كان شيخه يُحب الأدب ويكتب الشعر، ووصل إلى مرتبة عُليا فى البلاغة، وكان كثيرًا ما يقرأ الشعر فيسمع فتانا شيخه وهو يترنم بأبيات رائقة صافية فيطرب، وقد عرفنا من مآلات ابن عطاء الله أنه أصبح أديبًا مبدعًا وصاحب ذوق رفيع، ولعل كلماته التى صاغ بها كتابه «الحِكَم العطائية» تدل على أنه وصل إلى ما لم يصل إليه أحد فى البلاغة والذوق والحكمة، ويكفينا أن نعرف أن كتاب الحِكَم لم يكن له سابقة فى طريقة تصنيفه ولا فى لغته ولا أسلوب عرضه.
وعلى منابر المساجد وقف أحمد بن عطاء الله يخطب «الجمعة»، وقد كان فى خُطَبِه هذه يردد ما حفظه عن شيخه «ابن المنير الجذامى» الذى كان من تصانيفه «ديوان الخطب» وبدأت شهرة ابن عطاء الله تسرى بين الناس، فقد كان فصيحًا بليغًا مؤثرًا، ووصل إلى سمع هذا الشيخ الشاب اسم رجل صوفى يتبرك الناس به ويقولون إنه من علماء الحقيقة، أى حقيقة تلك التى هو من علمائها؟! أيوجد عندهم حقيقة وعندنا خيال؟! يقولون إنهم أهل الباطن وإننا لا نملك إلا الظاهر! هذه أشياء مُنكرة لا أصل لها فى الإسلام، هكذا حدثته نفسه، فأخذ يرد على هذا العالم الذى يتبرك الناس به دون أن يذهب إليه أو يسمعه، ولماذا يسمع تلك الترهات وهو لا وقت له، فهو بين دروس الفقه واللغة والحديث والتفسير، وقد أصبح يشار إليه بالفقيه، وقصده الناس ليسألوه فى أمور دينهم، وما إن بلغ الرابعة والعشرين من عمره حتى مات شيخه «ابن المنير الجذامى» وكان جده قد مات قبل ذلك بعدة سنوات، والأيام تنقضى، والشيخ الشاب يتفكر فى انقضاء الأيام وفوات الآجال، وموت الأحباب، والقلب يرقُ عند هذه الأحداث، والشاعر الذى يسكن فؤادَه يحرك أشجانه ويدفعه إلى كتابة الشعر الذى يشكو فيه حاله، ثم يناجى ربه قائلًا: إلهى، أنا الفقيرُ فى غِناىَ، فكيف لا أكون فقيرًا فى فقرى؟ إلهى، أنا الجهولُ فى علمى، فكيف لا أكون جهولًا فى جهلى؟ إلهى، كيف تكِلُنى إلى نفسى وقد توكلت عليك؟! وكيف أضامُ وأنت الناصرُ لى، ها أنا أتوسل إليك بفقرى إليك.
كانت تلك اللفتات الصافية تخرج من فؤاد صاحبنا فى وقت ضيقه وحين يتذكر من مات من أحبابه، ثم يعود الفتى إلى حياته ودرسه ومنبره وجمهوره، فتأخذه الدنيا قليلًا إلا أنها كانت دنيا مغلفة بالدين، وهو يحاول أن ينفلت منها ثم سرعان ما يعود إليها، ثم كان أن شغله أمر زواجه فعاش عدة أشهر فى نعيم الزواج، إلى أن ظل اسم ذلك الولى يطارده فى كل مكان، نعم، الولى الذى يتحدث عن علوم الحقيقة وأهل الباطن والظاهر وما إلى ذلك، وأظنكم عرفتم من هذا الولى، هو مولانا أبوالعباس المرسى قطب زمانه، وسبحان الله، فكَّر ابن عطاء الله أن يذهب إليه ليعرف حاله، ولكنه تردد كما تردد أبوالعباس المرسى نفسه فى سابق الزمن قبل أن يذهب لشيخه مولانا الشاذلى لدرجة أنه صلى صلاة استخارة، ولكن ابن عطاء الله حسم أمره دون استخارة وذهب لأبى العباس المرسى، ليقف على أعتاب دنيا أخرى سنعرفها فى الحلقة القادمة.