رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولأول مرة.. أخلفت موعدى


دعوة كريمة، أتلقاها كل عام، من القس الدكتور عزت شاكر، نائبًا عن الكنيسة الإنجيلية بمدينة نصر، لحضور مأدبة الإفطار التى اعتادت الكنيسة على تنظيمها خلال شهر رمضان من كل عام، وتدعو إليها لفيفًا من رجال الدينين الإسلامى والمسيحى، والساسة والعلماء والمفكرين والقائمين على الأمن فى بلادنا.. يلتقون على إفطار عامر بالخير والكرم المصرى الأصيل، على موائد مفروشة بقلوب المحبة من رجال الكنيسة الإنجيلية، الذين يرون فى مثل هذا اليوم، فرصة للقاء والتواد والتواصل، على من كُتب عليهم الصيام فى هذا الشهر المبارك، يدور حول موائدهم، ملائكة من السماء، فرحين بضيوف الرحمن فى كنيستهم التى ما عرفت غير الألفة والوحدة مع أبناء مصر المحروسة، يطوفون كالفراشات ترفرف بأجنحتها، سعيدة بمن زار دار الله فى أرضه، والتقى إخوته فى عريش عباداتهم ومقر صلواتهم.
فإذا ما انتهى الطعام، مُدت الفُرش لإقامة صلاة المغرب، لمن أتموا صيام يومهم، وحمدوا ربهم على ما رزقهم، متمنين أن يكون الصوم مقبولًا، والإفطار شهيًا.. فإذا ما قُضيت الصلاة، علت الحناجر وتسابقت القلوب والعقول على تبادل شئون الوطن والاطمئنان، ممن يوجدون من الضيوف، على حاضره ومستقبله، لا يجمعهم فى تلك اللحظات إلا حب وطن يسكنهم جميعًا ويعشعش فى قلوبهم.
هذا ديدن كل عام، والموعد الذى أنتظره، انتظارى لهلال شهر رمضان، وأنتظر اللحظات التى تُنبئ عن الموعد المُختار للقاء فى الكنيسة، ليس توقًا إلى مائدة يتسابق منظموها إلى كرم الضيافة فى محتواها، ولا إلى ذلك الاستقبال الحار الذى يلقانا به مضيفونا، منذ أن نترجل من سياراتنا عند مدخل الكنيسة، ولا تلك الحفاوة التى يحيطونا بها من كل جانب، لكنه التوق إلى إخوة، زادتنا باقى أيام العام الفاصلة بين رمضان والذى يليه، شوقًا إليهم وإلى وجوههم الباشة الهاشة، ولسانهم العذب الذى يقطر عسلًا، ومشاعرهم الدافئة التى تحوطنا، منذ لحظة اللقاء إلى منتهاه، لا يتخلف عنها ولو فرد واحد من أبناء هذه الكنيسة.. ورغم تعدد الدعوات فى ذلك اليوم، الذى وافق السبت الماضى، فإننى اخترت ألا أخلف موعدى السنوى الذى يجمعنى بأحبائى من الإنجيليين، لكن ظرفًا طارئًا فرض علىّ التوجه إلى بلدتى فى المنوفية، لأخلف معه هذا الذى انتظرته عامًا كاملًا.. وعند أذان مغرب هذا اليوم، توجه قلبى شطر مدينة نصر، وعشت بعقلى لحظات ذلك اللقاء الذى لم أحضره، وكأننى الغائب بجسده، الحاضر بعقله وقلبه. سألنى أخى عن ذلك الانشغال بالموعد الذى أخلفته، وهل هو مهم لى إلى هذه الدرجة، فذكرته، وهو الذى يكبرنى بعشر سنوات.. بأيامنا الأولى فى بلدتنا «مركز منوف محافظة المنوفية»، وعن علاقتنا بالكنيسة هناك، وعن إخوة الجوار والأهل والأصدقاء من مسيحيى هذا المكان الذين أحاطونا جميعًا وتربينا معًا بين ربوعه، بلا تفريق على أساس من دين أو عقيدة، وعن مراتع اللعب فى فناء كنيستنا، والعلاقة الحميمة التى ربطت بين رئيس الكنيسة هناك وأخى الأكبر «وهو المسلم»، وعن زياراتنا لبيته، وعلاقتنا بأهل هذا البيت، وكيف كان أبونا القس لا يستأمن أحدًا على مرافقة بناته الكبريات، فى خروجهن للشراء من محلات مدينتنا، إلا أخى الأكبر، الذى كان عنده بمثابة الابن الذى لم ينجبه.. هكذا كنا، وهكذا نحن الآن.
إن ما يجمعنا فى هذا الوطن، كثير من أواصر العرق والدم واللغة والتراث المشترك والثقافة الواحدة واللسان الواحد، والأهم القلب الواحد الذى يؤمن بإله واحد وينتمى لوطن وأرض واحدة، تسيل على ترابها دماء يهرقها المتطرفون من أعداء الوطن، وتسيل فى محاربة الإرهاب على أرضه، فتضخمها بعبق الشهادة، لا تُميز حبات الرمال بين دم مسيحى وآخر مسلم، فهى أرض الوطن الذى سكننا قبل أن نسكن فيه، كما قال الراحل العظيم الأنبا شنودة، وهو الوطن الذى تهون فى سبيله كل الأشياء، لأن وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن، كما قال الرائع البابا تواضروس، الذى يزور ألمانيا حاليًا.. ذهب إليها وهو يحمل مصر بين جنباته، قال البابا فى حوار نقلته قناة الكنيسة من ألمانيا، إن المسئولين فى الخارج يتحدثون عن مصر ويصفونها بقلب العالم، وحين كنت فى اليابان، قال لى وزير خارجيتها نحب التعامل مع مصر، وحدد ذلك أيضًا فى روسيا وغيرها من الدول، ولم ينس ما قاله للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، عن أن الأوضاع بمصر فى تحسن، يومًا بعد يوم، والآن يوجد قانون بناء كنائس وقانون تقنين الكنائس، وقد تم تقنين تسعمائة مكان خلال عامين، منذ صدور القانون وحتى الآن، أى يتم تقنين مكان كل يوم.. مشيرًا إلى أن رئيس الجمهورية يحضر قداس العيد كل عام مع أبنائه المسيحيين، وهو أمر لم يكن يحدث من قبل، فضلًا عن افتتاح كاتدرائية جديدة مع مسجد فى نفس الوقت، بالعاصمة الجديدة، فالمجتمع المصرى يتحسن يومًا وراء يوم، ونحن بالأمس افتتحنا محور روض الفرج، وهذا أعرض كوبرى فى العالم، عرضه ٦٧ مترًا، واختتم كلامه قائلًا: «بلدنا اتجرحت كتير».
جاءتنى دعوة، يقول البابا تواضروس، لحضور إجراءات التفتيش بقاعدة محمد نجيب العسكرية، بحضور وتشريف رئيس الجمهورية، وكانت هذه أول مرة أذهب فيها لقاعدة عسكرية فى حياتى، والجميل أننى رأيت طلبة جامعات يتواصلون مع الجيش والشرطة.. هذه قاعدة يفتخر بها كل مصرى، وشرحوا لنا على أرض الواقع، قبل أن نجتمع على مائدة طعام المحبة، جمعت أكثر من ألف شخص فى حضور وتشريف رئيس الجمهورية.. ومع هذا، فالكنيسة ليس لها دور سياسى، وهى أقدم كيان شعبى على أرض مصر، وهذا جانب تاريخى، أما السياسة فيعمل بها سياسيون متخصصون، وكل الأقباط مواطنون مصريون، وأنا مواطن مصرى، ودورنا المشاركة فى الوطن، بموجب حقوق وواجبات المواطنة، أما السياسة فيمكن ممارستها من خلال الأحزاب، والكنيسة ليست حزبًا، وما نصنعه يندرج تحت بند المواطنة.
واقعة مهمة، جرت فى ألمانيا، تعكس بوضوح، الروح المصرية الخالصة التى يحملها المصريون لبلدهم ووطنهم، مسيحيين كانوا أو مسلمين.. أرض نشرف بها، ونحيا من أجلها، ونموت، إذا دعا الداعى، فى سبيلها.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.