رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"تفكيك الصنم"..

محمود خليل يكتب: مفهوم الجهاد ومغالطات سيد قطب

جريدة الدستور

توقف سيد قطب- فى كتابه «معالم فى الطريق»- عدة مرات أمام «آيات القتال» فى القرآن الكريم. الأمر يبدو طبيعيًا، فإلى ماذا ينصرف عقل منظر اتهم العالم كله بالوقوف على حافة الهاوية والوقوع فى براثن «الجاهلية» سوى دعوة مناصريه والمؤمنين بفكره والمتحلقين حول مفاهيمه إلى قتال الآخر المخالف فى العقيدة أو التصور؟. وثمة مفارقة عجيبة تجدها فى كتاب «المعالم» الذى يبدأ السطر الأول منه بالنعى على «البشرية التى تقف على حافة الهاوية»، ثم لا يجد كاتبه وسيلة لإنقاذها من السقوط إلا بالقتل. كيف يكون القتل إنقاذًا؟!.
يقول سيد قطب فى «المعالم»: «أذن الله للنبى فى الهجرة وأذن له فى القتال، ثم أمره أن يقاتل مَن قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله.. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة، فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفى لهم ما استقاموا له على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأمر أن يقاتل من نقض عهده.
ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا فى الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم، وجعل أهل العهد فى ذلك ثلاثة أقسام: قسم أمر بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، وقسم لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهده إلى مدتهم، وقسم لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر فإذا انسلخت قاتلهم. فاستقر أمر الكفار بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربون له، وأهل عهد، وأهل ذمة».
ثمة نوع من التداخل بين فهم سيد قطب لمصطلحى «الجهاد» و«القتال». فكثيرًا ما يشعر القارئ لمؤلفاته بأن أحدهما يرادف الآخر فى المعنى. وحقيقة الأمر أن مفهوم الجهاد فى النص القرآنى يتسم بقدر كبير من الشمولية والاتساع قياسًا إلى مفهوم القتال. فى تقديرى أن الجهاد يشمل أى فعل يقوم به الإنسان فى سبيل تحقيق الهدف من استخلافه فى الأرض، والمتمثل فى استعمارها: «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها». فرحلة الإنسان على الأرض منذ ميلاده وحتى وفاته مدارها الجهاد لإعمار الأرض تحقيقًا لإرادة الخالق. وليس أدل على ذلك من الحوار الذى دار بين الملائكة والمولى -عز وجل- حين قضت مشيئته بخلق الإنسان: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ». لذا يشمل مفهوم الجهاد أى جهد من أجل إعمار الحياة، ومقاومة أى نزوع لإفسادها أو تدميرها. جهاد المسلم تضحية من أجل الحياة. لا يلزم أن تكون هذه التضحية بالنفس، بل تسبقها على سبيل المثال التضحية بالمال: «وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله»، أو التضحية بالأهل والزوج والعشيرة والمال والتجارة دفاعًا عن الحياة: «قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين».
نخلص مما سبق إلى أن مفهوم الجهاد فى الإسلام يتسع لكل جهد يبذله المؤمن فى سبيل إعمار الحياة، والدفاع عنها وحمايتها من التدمير. ويخطئ من يذهب إلى ما ذهب إليه سيد قطب حين اختزل الجهاد فى مسألة القتال. فقتال المعتدين ليس أكثر من شكل من أشكال الجهاد، وأداة من أدواته. وعلى عكس ما يذهب إليه منظرو التطرف تشير آية: «قل إن كان آباؤكم» إلى المدلول الحقيقى للجهاد كمفهوم يعبر عن «إعمار الحياة». فالكثير من الجرائم التى تشهدها المجتمعات المعاصرة قد يكون مصدرها الرغبة فى تحقيق آمال وهمية للآباء، أو الضعف أمام الأبناء والأزواج، أو الذوبان فى الجماعة «العشيرة» التى ينتمى إليها الفرد، أو الولع باكتناز المال والمحافظة عليه بغض النظر عن مصدره، أو الخوف على المكاسب التجارية. كأن الآية الكريمة تقول إن تحرير النفس من الاستغراق فيما يدفعها إلى الفساد هو المعنى الحقيقى للجهاد، الجهاد الذى يحمى الحياة ويدافع عنها، وليس الذى يدعو إلى إزهاق الأرواح كما نظّر سيد قطب.