رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دراسة عمرها ٨٠ عامًا عن تعدد الزوجات

جريدة الدستور

- عبدالعزيز فهمى باشا يتحدث حول القضية المثيرة للجدل فى بحث ننشره كاملًا 1
من يقدر على إرهاب شيخ الأزهر؟.. لا أحد، فعلو قامته تعصمه، ومن يستطيع أن يوقف مسيرة الاجتهاد؟.. لا أحد، فهى تضرب بجذورها فى تاريخ الإسلام، محافظة على تجدده وحمايته من الجمود، انطلاقًا من مبدأ الإسلام الأساسى «التفكير فريضة إسلامية» بنص الآيات والأحاديث التى ساقها «العقاد» فى كتاب له بهذا الاسم.
ومن ثم، فإن اجتهاد د. أحمد الطيب فى مسألة تعدد الزوجات، الذى أثار عليه المتنطعين، لم يكن مجرد فتوى ادعاها شيخ الأزهر أو ساقه إليها الهوى، وإنما لها أساس فى تاريخ الفكر الإسلامى، عندما كتب عبدالعزيز فهمى باشا «١٨٧٠- ١٩٥١» بحثه الجرىء عن تحريم تعدد الزوجات، فى المجلة القضائية فى عام ١٩٣٨، والذى أهدانى نسخة منه الصديق المغفور له صبرى العسكرى- المستشار القانونى لاتحاد الكتاب- ولعلها فرصة للتعريف بعلم من أعلام نهضتنا الحديثة فى اللغة والفقه والقانون، إلى الدرجة التى شهد له فيها بعلمه ومواقفه اثنان من كبار مفاخرنا الفكرية والثقافية، وهما الفقيه الدستورى عبدالرزاق السنهورى وطه حسين.
كان د. الطيب قد قال إن مسألة تعدد الزوجات فى الدين الإسلامى تحمل «ظلمًا للمرأة وللأبناء فى كثير من الأحيان، وتعد من الأمور التى شهدت تشويهًا للفهم الصحيح للقرآن الكريم والسنة النبوية»، قبل أن يؤكد- أمام عاصفة غاضبة من المتطرفين- أنه لم يتطرق مطلقًا إلى تحريم أو حظر تعدد الزوجات، بل حاول مواجهة «فوضى التعدد وتفسير الآية الكريمة المتعلقة بالموضوع».
العدل هو المحور الأساسى الذى بنى عليه عبدالعزيز فهمى باشا بحثه الثورى فى تحريم تعدد الزوجات، ولدقة عباراته وصياغته اللغوية والفقهية والمنطقية، أترك نص ما كتبه دون اختصار أو تلخيص، حرصًا على عدم الإخلال بالأدلة المحكمة التى استند إليها فى البرهان على اجتهاده، ولفتح باب المناقشة للمتخصصين وعلى رأسهم الإمام الأكبر، لعلنا نصل إلى نتيجة يجمع عليها أهل الذكر والفكر والفقه، فى قضية تعدد الزوجات التى لا تزال محل جدل ونقاش، وهذا سر من أسرار عظمة القرآن الكريم وصلاحيته لكل زمان ومكان، لأنه لا يعطى كل أسراره لجيل واحد، وإلا لكان قد جمد وأصبح تراثًا تاريخيًا، ولكنه يعطى كل جيل حسب فهمه واجتهاده، لتظل الآية: «وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا»، صحيحة إلى قيام الساعة، دليلًا على خلوده حتى تبدل الأرض غير الأرض، فإلى نص بحث عبدالعزيز فهمى باشا، وعنوانه «تعدد الزوجات.. لماذا أقول بتحريمه.. آيات القرآن ووجوه الاستدلال بها».
هاك نص الآيات القرآنية التى بنيت وأبنى عليها رأيى، وكلها فى سورة النساء:
«أولًا»: الآية الثانية من السورة وهى: «وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا».
«ثانيًا»: الآية الثالثة ونصها: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا».
«ثالثًا»: الآية التاسعة والعشرون بعد المائة ونصها: «وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ»
وأقول؛ إن الكلام فى الآيتين الثانية والثالثة من السورة مسوقتان لتحقيق فضيلة العدل فى المعاملة، فأشار فى أولاهما إلى ما كان حاصلًا من أكل المخاطبين، أموال اليتامى الذين فى ولايتهم ومن العبث بها، وقد أمرهم باجتناب هذا العبث وعدم التورط فيه، لأنه إثم عظيم.
ولما كان بعض اليتامى إناثًا فى حجر المخاطبين، وكان لهن أموال تحت أيديهم، وكان من عاداتهم السيئة أنهم يتخذون هؤلاء اليتامى زوجات لهم ويمسكوهن وأموالهن ضرارًا، وكان هذا أشنع مظهر من مظاهر أكل مال اليتامى، فتتميمًا لفكرة تحقيق العدل «التى فى الآية الثانية من السورة» وتثبيتًا لها، أشار فى الآية الثالثة إلى هذا المنكر، وأتى بأبلغ ما يكون من القول لصرفهم عنه، إنه يقول لهم إذا فهمتم قولى فى الآية السابقة، وعلمتم أن أكل مال اليتامى مطلقًا «من ذكور وإناث» إثم كبير، فلا تتذرعوا إلى هذا العبث بنكاح اليتيمات اللاتى فى حجوركم، بل تعففوا عن نكاحهن المفضى بكم إلى أكل أموالهن، ولديكم ممن تستطيبوهن من غيرهن من النساء كثيرات، تستطيعون أن تنكحوا منهن ماتشاءون، لا واحدة ولا اثنتين واحدة بعد الأخرى، ولا ثلاثًا واحدة بعد الاثنتين الأوليين، بل حتى مثنى وثلاث ورباع، أى جزافًا بلا حساب ولا عدد، فهذه الآية ليست مسوقة لتحديد عدد الزوجات مطلقًا، بل هى مسوقة بالذات وبالقصد الأول إلى التضييق على المخاطبين فى نكاح من تحت حجرهم من اليتيمات، مع تبكيتهم لعدم انصرافهم عن هذا المنكر من تلقاء أنفسهم، وأن شفاء شهواتهم ورغباتهم ميسور التحقق لهم من غير تلك السبيل الآثمة الخطرة، وكل متذوق يعلم كم فى التعبير بهذه الكيفية من الهزؤ والسخرية بالمخاطبين، من جهة إبرازه أمام نظرهم صورة تكاد تكون مجسمة لتعاميهم عن إدراك ما هو فى متناول أيديهم عفوًا صفوًا لا إثم فيه، وارتكابهم ذلك الإثم الذى هم فى غنى عن ارتكابه.
غير أنه مع هذا التوسيع التقريبى العظيم، لم يترك فكرة العدل التى هى أساس القول فى هذه الآية وفى التى قبلها، بل سارع إلى التنبيه إليها والتنويه بها، فقال: «فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم»، بل إنه كيما يثبتها فى أذهان المخاطبين أكدها بذكر العلة المرغبة الموجبة فقال: «ذلك أدنى ألا تعولوا».
ويلاحظ فى الصدد الذى نحن فيه أنه لا فرق بين أن يكون النص أبقى على التعدد المطلق المألوف للعرب كعادتهم أو إباحته إلى الأربع فقط، كما يقول حضرات المخالفين، فإن الرباط الذى وضعه فى قوله: «فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة» يسقط قيمة كل كلام فى التعدد وإلى أى حد يكون، ويجعل العبارة تؤول إلى شىء واحد هو: أن الشارع يستوى عنده أن يتزوج الرجل واحدة أو ألفًا ما دامت معاملته لكل واحدة من زوجاته تكون عادلة، وما دام يسوى بين الجميع فى هذه المعاملة العادلة، وما دام لا يخاف من نفسه عدم العدل، وبحيث إنه إن خاف عدم العدل فواجبه أن يقتصر على الواحدة.
لكن النص فى نظرى بعيد- كما أسلفت- كل البعد عن إفادة أن الآية مسوقة لتحديد عدد الزوجات الجائز جمعهن كما يقال، وذلك:
«أولًا»: لأن تحديد عدد الزوجات من الأمور الأساسية فى التشريع للعرب، لأنه يصادم عادة متأصلة فيهم، والقرآن أجلُّ من أن يأتى بهذا الشأن الأساسى بصفة عرضية جوابًا لعبارة بعيدة لظاهرها عن هذا الشأن ولا مناسبة بينها وبينه، إذ الحق أن أحدًا لا يستطيع أن يفهم ما هو الارتباط بين خوف عدم الإقساط فى اليتامى وبين نكاح النساء وإلى أربع فقط.. إن القرآن لأجل بلاغة من أن يأتى بهذه المفارقة.
«ثانيًا»: لأن كلمة «ما» فى قوله «ما طاب» هى من أقوى ما يكون فى إفادة العموم. ولست أميل إلى ما قد يقولونه من أنها موصولة مستعملة فى محل كلمة «من»، بل الذى أطمئن إليه أنها نكرة بمعنى «أى شىء»، فهى من أعم ما يكون فى الدلالة، أى فانكحوا مما ينكح- أى شىء- طاب لكم، أى أية امرأة أو أية مجموعة من النساء طابت لكم، ولا شك أن هذا التعبير فى ذوق كل عربى أعم من دلالة «ما» إذا فهمت على أنها «ما» موصولة ومتى اطمأن الناظر إلى أن لفظ «ما» عام ذلك العموم، وأنه بأصل وضعه يطلق على الإنسان والحيوان والجماد وسائر الموجودات، ولا يتحدد إلا بالوصف المباشر الذى ينعته، وهو هنا «طاب لكم من النساء»، فمما يطعن على بلاغة القرآن وتساوق عباراته وتناسبها أن ينحدر من هذا العموم الكلى إلى التحديد بالأربع، بل إنه انحدار يكون غير مقبول شكلًا «كما يقول الناس» فى وقتنا الحاضر، إذ لا مشاكلة بين ذلك الإطلاق المبتدأ وبين هذا القصر المفاجئ الذى يصدم الفكر، لأنه من واد آخر مفارق لوادى التعميم، وهو فى التمثيل أشبه الأشياء بفارس يكبح فرسه ويكرهه على الوقوف فجأة وهو فى أوج انطلاق عدوه. وبلاغة الآية لا تحتمل هذا العبث الشديد. ومما تجب ملاحظته أن القرآن عندما نعت كلمة «ما» المذكورة راعى عمومها المطلق، فاستعمل فى النعت كلمة «طاب» ولم يستعمل كلمة «حل» لأن «الطائب» قد يكون حلالًا وقد يكون حرامًا، فمدلوله أعم وأشمل من مدلول الحلال، وهذا من أبدع ما يكون فى مراعاة المشاكلة، فحرام إذن أن يعبث أحد بهذه البلاغة المتناهية.
«ثالثًا»: لأن التغاضى عن مقصود العبارة القرآنية وفهمها على ذلك التحديد الحرفى يؤول بنا إلى نتيجة منكرة: ذلك أن مثنى وثلاث ورباع معناها المتفق عليه عند الجميع اثنتين اثنتين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، لأنها أوصاف معدولة عن أصلها هذا العددى، ومثل هذا التعبير سواء كأصله أو كما عدل به إليه، مستعمل الآن وقبل الآن فى كثير من الظروف.. يقول الضابط لجنوده: سيروا اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة، أو يقول لهم ما يساوى هذا فى فصيح العربية الموجز: سيروا مثنى أو ثلاث أو ورباع. فإذا أراد الجنود تنفيذ هذا الأمر وجب أن يكون حدث السير واقعًا من كل اثنين منهم معا فى آن، أو من كل ثلاثة منهم فى آن، أو من كل أربعة فى آن، بحيث إنه إذا سار واحد منهم بمفرده ثم سار الآخر من بعده بمفرده، فإن سيرهم لا يكون مثنى «أى اثنين اثنين» بل يكون موحدًا فقط، وكذلك إذا قلت لأحد الناس: كل هذه العنبات مثنى وثلاث رباع، فتنفيذ هذا يكون بأن يأخذ فى اللقمة الواحدة حبتين من العنب أو ثلاث حبات أو أربع.. أقول هذا لإفادة أن المعنى الحقيقى للفظ «مثنى» يقتضى أن الحدث المتبوع بهذا الوصف يقع فى وقت واحد من الفاعلين أو على المفعولين، فقوله «فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع» معناه بحسب حقيقة هذه الألفاظ يقتضى أن حدث النكاح يقع فى الوقت ذاته على اثنتين أو ثلاث أو أربع، أى أن يأتى الرجل لامرأتين فيتزوجهما فى وقت واحد بعقد واحد، أو أن يأتى لثلاث نساء أو لأربع فيتزوجهن فى وقت واحد بعقد واحد كذلك، وهذا من أشد ما يكون إفسادًا للفكر، لمخالفته لما هو معلوم من مجريات العادة عند العرب وغير العرب فى الزواج، هذا الفساد الشنيع الذى يؤول إليه المعنى يفيد أن تلك المغالاة اللفظية يستحيل أن يكون معناها الحرفى هو المقصود، بل هى كناية عن الأخذ الجزاف المنافى لكل تحديد، وقد جاءت هنا للغرض الواضح الذى أشرت إليه وهو تقريع المخاطبين والهزؤ بهم، لتماديهم فى أكل أموال اليتيمات بالباطل عن طريق نكاحهن، وتعاميهم عن الباب الواسع الموصل إلى تحقيق رغباتهم من النكاح بلا حرج ولا فسوق ولا آثام، أما رجوع الأمر بعد هذا الكلام إلى قوله «فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة» فهو تعجيل منه بالعودة إلى ما يجب من تحقيق فكرة العدل التى قامت عليها الآية التى نحن فيها والآية التى قبلها وكثير مما بعدها من الآيات.
«رابعًا»: لأن عبارة الآية «مثنى وثلاث ورباع» أتت بكل ما فى العربية من ألفاظ الصفات العددية التوزيعية، إذ ليس فى العربية «خماس» ولا ما يليها، وخلاصة ما قاله ثقات اللغويين المختصين إنه ورد فيها لفظ «عشار» سماعًا فقط ولكنه من الشذوذ، وهذا يدلك على أن القرآن استقصى فى الآية كل ما فى العربية من ألفاظ التوزيع الجزاف، ولم يترك بعدها لفظًا لمزيد من التسلل الرخيص على عبارة الآية أن تلتمس منها إرادة تحديد الزوجات بشىء من المجاميع التوزيعية المبينة بها، ولقد يخيل إلىّ أن هذا التسلل الرخيص هو من عمل بعضهم أيام التدوين، واجتهادهم فى تصويب ما استقر عليه الإجماع فى بيئتهم من عدم تعدى الأربع، ووجدوا ألفاظ هذه الآية تنتهى إلى «رباع»، فجعلوا هذا اللفظ متكأهم وأخذوا يؤولون الآية على غير ما لألفاظها من الدلالات والمفاهيم، بل إن من أبلغ ضروب التسلل ما عمدت إليه بعض البيئات من قولهم إن الآية، إذا قالت «مثنى وثلاث ورباع» فقد أباحت للمسلم تسعًا من النساء، لأن «مثنى» معناها اثنتان، و«ثلاث» معناها ثلاث، و«رباع» معناها أربع، وهى متعاطفة بالواو المفيدة للجمع، ومجموع هذا تسع، ثم من تأييدهم لهذا الفهم الجرىء بما كان من ترك النبى تسعًا من الزوجات، وأخطر من هذا التسلل زعم بعضهم أن للمسلم التعديد إلى ثمانى عشرة، لأن ألفاظ الآية تفيد التكرار.
ومن عبارات الحق التى يدعم بها الباطل أن المقتصرين على أربع ردوا على أولئك بأن التسع من خصوصيات النبى لا يشركه فيها مسلم، وظنوا أنهم بهذا الرد ألزموا بنظريتهم فى حل الأربع فقط، مخالفيهم أولئك المتطرفين. وأقول إن الحق بين، وهو أن الآية لم تعمد قط إلى تحديد عدد الزوجات بالنص، لا بأربع ولا بتسع ولا بثمانى عشرة كما هو مزعوم، ولا يطعن على أى دين من الأديان أنه يترك تعدد الزوجات على أصله من الإباحة، إنما الذى يطعن على الدين أن لا يأمر بالعدل التام بين الزوجات المتعددات، والدين الإسلامى يأمر به بأقوى العبارات ويشدد فى أمره غاية التشدد، بل يصرح بأنه فوق استطاعة الإنسان.
«خامسا»: لأنهم- تأييدًا لتفسيرهم الإكراهى- يقولون إن فى الآثار أن فلانًا أو فلانًا كان تحته ثمانى نساء أو عشر، فلما نزلت الآية كلم النبى فأمره بإمساك أربع ومفارقة الباقيات. وأقول: كيف تطمئن قلوب المؤمنين إلى الأخذ بمثل هذه الأحاديث؟ إنه مع التسليم جدلًا بأن الآية تحدد عدد الزوجات، فإن فلانًا الذى يروون حكايته إما أن نساءه كن جميعًا لديه فى الجاهلية، وإما أنه جمعهن بعد الإسلام ومن قبل إسلامه هو، أو بعد إسلامه ومن قبل نزول قوله تعالى: «فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة». وعلى أى الفروض، فهل يعقل أن مثل هذا الرجل الذى قد يجوز أن تكون كل نسائه والدات، ويجوز أن يكون له من كلهن أطفال فى دور الرضاع- هل يعقل أن أى شريعة سماوية أو وضعية تأتى بخراب بيت مثل هذا الرجل وتشتيت بعض زوجاته وما قد يكون له من أطفال- هذا منكر لا يأتيه شرع الله، ولا يمكن أن يكون النبى قد أمر به، إلا إذا تصورنا النبى- وحاشاه- قد فارقه ما فطر عليه من الخلق العظيم، وأى ضرورة دينية أو اجتماعية عاجلة تدعو الشرع الإسلامى إلى مثل هذا التخريب العاجل الشنيع؟ ألا يكفى أن يكون القانون نافذًا فى المستقبل وأن الله الغفور الرحيم يعفو عما سلف، بلا إسناد للحكم ولا رجعية؟ أظن أن هذا هو الحق وأنه هو مراد القرآن، وهو جار على طريقة القرآن.
ومن ناحية أخرى فإن قوله: «وإن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة»، إن فرض أنه مسوق للتصريح بتعديد النساء إلى أربع فقط- على التفسير القسرى الإكراهى الذى يريده أصحاب هذه النظرية- فإنه يقرر أيضًا حكمًا أساسيًا هاما هو وجوب الاقتصار على واحدة عند خوف عدم العدل بين الأربع المزعومات. وهذا الحكم الأساسى كان يقتضى بطبيعة الحال أن يأمر النبى تنبيه الناس بمفارقة ما زاد عن واحدة، لأن الخوف يملأ كل نفس حتى نفس النبى، فلماذا يترك النبى تنبيه الناس إلى هذا ويقتصر على تنبيههم إلى مقتضى الحكم الأول الخاص بعدم الزيادة على أربع «كرأيهم»؟ إن هذا ليجعلنا نرتاب كل الارتياب فى صدق تلك الأحاديث التى يحتجون بها.