رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولي ومريد «13»

أبوالعباس المرسى.. السابح فى بحر الحقيقة


عرفنا فيما مضى من الأحداث أن المركب الذى كان يحمل أسرة صاحبنا أبى العباس المرسى إلى بيت الله الحرام أخذت الأمواج تلاعبه بالقرب من شواطئ تونس، إلى أن تحطمت أضلاعه وأصبح مجموعة من الألواح والأطواف، أو قل بات أثرًا بعد عين، وفى تلك اللحظات يلجأ كل الناس إلى الله، مؤمنهم وكافرهم، عالمهم وجاهلهم، حتى إننى أعرف أحد الملحدين الكبار حينما ضل به زورقه الفاخر فى البحر الأحمر، وانقطع الاتصال بينه وبين العالم، ونفد زاده، والليل يحيطه والموج يكشر عن أنيابه، ولم يجد منجاة له من الناس، فإذا به رغمًا عنه وقد أخذ يبكى ويدعو الله أن ينجيه من الموت الذى كان على أعتابه.
أما صاحبنا أبوالعباس فإنه لم يكن يبحث عن نفسه حينما ادلهمت به الخطوب، بل كان يبحث عن أمه وأبيه، ولكن الأمواج أخفتهم عنه، وقلبُه يكاد يتمزق من الهلع عليهم، ولكن ما باليد حيلة إذا حم القضاء، ولعله سيكون رحمة لم نرها بعد، وفى وسط هذه الحالة لم يجد صاحبنا أمامه إلا لوحًا كبيرًا من الخشب يبتعد حينًا ويقترب حينًا، وكأن هذا اللوح هو اليد التى أرسلتها يدُ الله له. وبعد قرون طويلة من هذا الحدث كتب شاعرُنا الكبير إبراهيم ناجى فى «أطلاله» بيتًا فيه لمحة من لمحات الرجاء، هو: «ويدٍ تمتد نحوى كيدٍ من خلال الموج مُدت لغريق» وقد كان هذا الطوف هو يد النجاة فتعلق به، وحينما التفت صاحبنا وجد أخاه يمسك بطرف هذا اللوح، والماء ينساب على وجهه، ولو رأيناهما معًا فى تلك اللحظة لما عرفنا هل هذا الماء هو ماء البحر أم هو دموع الرجاء؟
وألقى بهما اللوح على شاطئ تونس، ونجا معهما نفرٌ قليل، ولم يكن الوالدان من الناجين، وما أظن صاحبنا بعد أن استعاد رباطة جأشه إلا أن طلب من الناجين معه أن يصلوا على الغرقى صلاة الغائب، فصلَّوا، وانصرف كل واحد منهم إلى حال سبيله يبحث عن وجهٍ جديدٍ لحياته، ولا أعرف كم مضى على صاحبنا وأخيه وهم يبحثون عن عمل، وكلٌ مهيأ لما خلق له. أما صاحبنا فقد وجد عملًا فى أحد الكتاتيب يعلم فيه الصبيان القرآن والكتابة والنحو والحساب، وكان شقيقه قد وجد عملًا فى حانوت أحد التجار ثم ما لبث أن أصبح يتاجر لحساب نفسه.
زاد تعلق قلب مولانا أبى العباس المرسى بالله، وأخذ يذكره ليلًا ونهارًا، وزادت رقة قلبه، وأخذ يشعر بحلاوة الذكر التى أورثته جلاء البصيرة، ولذة القرب من الله لا تعادلها لذة فى الدنيا ولا فى الآخرة، ولا يمكن أن يصفها لك إنسان لأنها لا تُوصف، فهى لذة تشعر بها فقط، ومع تعلقه بالله تعلق قلبه بالمساجد فأخذ يحضر دروس الفقه، ويقرأ كتب العلم، ويناظر العلماء، وأنتم تعلمون معى أنه حاد الذاكرة، لا يُجارى فى الفراسة وكأنه يرى بنور الله، وظل فى تحصيله علوم الشريعة حتى أصبح مُقدمًا فيها رغم أنه كان لا يزال فى مقتبل شبابه.
ونعود مرة أخرى إلى مولانا الشاذلى، وكان قد عاد من الحج إلى تونس كما عرفنا فيما مضى من الأحداث، والشاذلى قطب زمانه، والناس يمتدحون صفاته كثيرًا، ووصلت أخبار الشاذلى إلى الشاب المرسى أبى العباس، فظن أن الناس يبالغون فى مدحه، والشباب لهم رغبة فى بعض الأحيان فى نقد الكبار، أو مخالفة الناس فى رأيهم، أترى أن هذا الأمر قد دخل إلى نفس المرسى عندما سمع عن الشاذلى.. أم أنه لم يكن يُقبل على الصوفيين الذين يطلقون على أنفسهم أصحاب الحقيقة؟ الله أعلم، ولكن كل ما نعلمه هو أن أحد أصحاب أبى العباس المرسى طلب منه أن يذهب معه ليسمعا درسًا من دروس الشاذلى، فتردد صاحبنا، ثم قرر أن يستخير الله فى ذلك، وقد وقفت عند مسألة الاستخارة هذه كثيرًا، وتحيرت من أمرها! ما الذى يدفعه أن يستخير الله فى الذهاب إلى أحد العلماء ليسمع منه إلا إذا كان يرفض هذا النمط من التدين، نمط التصوف والصوفيين، ولا أظن أن أبا العباس استخار الله سابقًا قبل أن يذهب لأى عالم من العلماء، والشىء الوحيد الذى يجعل الشاذلى مختلفًا عن الآخرين هو أنه كان من العارفين الأولياء، وكان الناس يتحدثون عن كرامات له، ومثل تلك الأخبار قد تثير الريبة فى نفس من يريد أن يقترب من الله من خلال طريق الشريعة، وهو الذى لم يتعرف بعد على طريق الحقيقة، لذلك حسم أبوالعباس المرسى أمره بأن يستخير الله قبل الذهاب، وقد كان أقام الليل ثم استخار ونام، فيرى فى منامه أنه يصعد إلى قمة جبل، وفى القمة رأى رجلًا يرتدى عباءة خضراء ويجلس عن يمينه وعن يساره رجلان، فإذا بصاحب الرداء الأخضر يقول لأبى العباس: عثرت على خليفة الزمان.
استيقظ أبوالعباس وهو فى حيرة من أمر هذه الرؤية، ولكنه وجد انشراحًا فى قلبه ولذة تحتوى كيانه، حتى إنه يكاد يطير من فرط السعادة، فكان أن أسرع بعد صلاة الصبح لحضور مجلس الشاذلى، وما أن دخل على الشاذلى حتى أصابه الذهول! ما هذا؟! إنه هو نفس الرجل الذى كان يرتدى الرداء الأخضر، هو هو ورب الكعبة! ولكن الذى زلزل كيان صاحبنا هو أن الشاذلى نظر إليه ثم أفتر ثغره عن ابتسامة محببة، وقال له: عثرت على خليفة الزمان! يا ربى، ما هذا؟! الشاذلى يردد على مسامع صاحبنا نفس العبارة التى قالها له وهو فى منامه، ثم سأله عن اسمه ونسبه، وبعد أن أجاب أبوالعباس قال الشاذلى: «لقد وصلنا نبؤك منذ عشر سنين» ألهذا عاد الشاذلى إلى تونس فى انتظار هذا اللقاء؟ ألهذا ألقت به الأمواج إلى شواطئ تونس؟! ألهذا مُدت له يدُ النجاة من خلال الموج؟!.
من هذا اليوم أصبح أبوالعباس ملازمًا للشاذلى لا يفارقه أبدًا، وأخذ يتلقى على يديه علم الحقيقة، ويذهب وحده إلى مغارة الراهب وإلى غيرها من المغارات، حيث ينقطع عن الناس ويتفرغ لذكر رب الناس، ويرتجف قلبه رهبة مضمخة بالمحبة وهو يسمع الشاذلى يقول له: أنت يا مُرسى أنا، وأنا أنت، وما عدت إلى تونس إلا من أجلك، وكما عاش المرسى فى مطلع حياته فى مدينة مرسية حيث البحر المتوسط ونهر شَقورة الأبيض الذى يصب فى البحر المتوسط، عاش فى رحاب تونس التى تقع على البحر المتوسط، والتى قذفه إليها موج البحر المتوسط، ثم عاش فى الإسكندرية عروس البحر المتوسط، لم يذهب لها وحده ولكن كان الإلهام قد دخل قلب الشاذلى أن يذهب إلى مصر، فجمع أصحابه ليذهبوا معه، وطلب من تلميذه المقرب أبى العباس المرسى أن يكون صاحبه ورفيقه، فكانت محطة الشاذلى وصاحبه المرسى الأخيرة فى الإسكندرية، ولكن حياة أبى العباس المرسى فى الإسكندرية لا مثيل لها، ففيها تفجرت ينابيع حكمته وأنوار عبوديته، وسنعيش معه فى مدينة الإسكندرية مدينة الأولياء فى المقال القادم.