رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مجالس عُرفية.. كيف تنتعش المصالحات في رمضان؟ (فيديو)

جريدة الدستور


"كُنتُ أود أن أفطر في منزلي في رمضان، وتمنيتُ أن أُصلي التراويح طيلة الشهر الكريم.. لكن، لم أتمكن.. فالجلسات العُرفية كثيرة.. ربما كل يوم".. يتحدث القاضي العرفي ربيع سنوسي، عضو لجنة المصالحات بجنوب القاهرة، غير أن أحدهم يُقاطعه مجيبًا أن فض المنازعات بين المُتخاصمين أفضل من صلاة التراويح، فالثانية سُنة وليست فرضًا.

في مجلس مصالحات داخل منزل الحاج فتحي العكروتي، بمنطقة أطلس في حلوان، يجتمع المتخاصمون وأصحاب المظالم، للحصول على حقوقهم من أخصامهم.. جلسات تبدأ بوجوه شاحبة منزعجة، تنتهي بابتسامات وتصافي ومعانقات بين أطرافها.. "هُنا يبحث قُضاة العُرف عن الحقوق".

يومان كاملان قضاهما "الدستور" بين رجال العُرف، شهدا المرحلة الثالثة في مشكلتين مختلفتين، كانت الأولى حول خلافات مالية، والثانية عن منزل كان صديقان يشتركان فيه، لكنهما صارا خصيمان بسببه.

قُضاة يأتون من أماكن مختلفة، لا يجب أن يعرف أحدهم أطراف المشكلة من قبل.. يوقع الطرفان إقرارات بالالتزام بالحكم مُسبقًا والرضاء به، ويوثقان ذلك بضمانات أخرى مثل إيصالات أمانة بمبالغ مالية متساوية بين الطرفين.

يكتُب أحد القُضاة محضر الجلسة، في وقت يتولى فيه راعي البيت (صاحب المنزل المستضيف للصلح) مهمة تنظيم جلوس الحضور من طرفا الخصومة، وتقديم واجب الضيافة لهما وكسر حالة الاحتقان بينهما.

على طاولة رئيسية، يجلس القضاة جنبًا إلى جنب، أمامهم الطرفين، بينما يجلب راعي البيت مقعدين يضعهما أمام الطاولة متواجهين لبعضهما، تفصلهما مسافة كافية، يجلس فيها طرفا الخصومة الرئيسيين، ثم يُتلوا أحد القضاة محضر الجلسة أمام الجميع.

"لا نكتُب كل شئ هُنا، فالله أمرنا بالستر.. إذا كان الخلاف بها تفاصيل قد تُسبب خجلًا لأحدهم فيما بعد، لا يجب أن نكتبه.. يكفي أن نتحدث فيه هُنا ونُنهي الخلاف بشأن، لتنطوي تلك الصفحة للأبد".. يُخبرنا أحدهم، قبل أن يُعلن بدء الجلسة.

"من طالب الجلسة؟".. أحدهما هو المُدعي، وعليه أن يُثبت صحة ما ادعاه، وتنقسم الجلسة على أن يتحدث المُدعي حتى ينتهي، دون أن يُقاطعه أحد ـ إلا إذا كان استفسارًا حول ما قاله ـ ولا وقت مُحدد له.. "أخبرنا ما لديك بحرية.. نحنُ نسمعُك".. يقولها القاضي في وقت يُحذر فيه الطرف الآخر بأن يُنصت جيدًا، ولا يحث له الحديث إطلاقًا، فإن حدث وقاطع المُدعي، فالكلمة تُحسب بـ 1000 جنيه.

للطرف الآخر نفس المُعاملة، فبعدما ينتهي المُدعي من حديثه، يبدأ المُدعي عليه في الرد، وتبقى جولة أخيرة للمدعي عليه أن يُعقب على رد الثاني.. لجميعهم الحرية في الحديث، غير أن أمرًا حدث دفع القضاة لمقاطعة المتحدث، مُنفعلين بشدة.

الأمور التي تمُس الشرف وحُرمة الحياة الخاصة للناس، مُحرم الحديث فيها أمام الحضور.. "نحنُ نسمع لك جيدًا، لكن لا تتطرق لهذه الأمور إطلاقًا، وإن كُنت تعتقد أنها جزءًا أصيلًا في المشكلة التي نتحدث عنها، تحدث عنه، لكن ليس هُنا أمام الجميع.. في غرفة المداولة أخبرنا بما تريد، لكن ليس هُنا أمام الجميع".. هكذا يُحذر القاضي.

خبرات القُضاة في الجلسات العُرفية، تجعلهم يحترفون إدارة الحوار بين أطراف النزاعات، فقد يُسهب الراوي في حديثه عن الخلاف، ويتطرق لأمور ليست متعلقة بنقطة الخلاف المُتقاضى عليه، وهُنا يتدخل القضاة لإدارة حوار سريع بين الطرفين، سؤال وآخر هُناك، حتى يقتنعان بمشكلتهما الأساسية، وقد يستشعر المُخطئ بخطأه، أو ضعف حُجته.

انتهى الجميع من حديثه.. يتجه القضاة لغرفة المُداولة، للتحدث حول المشكلة، وسماع أي شهادات خاصة، ثم إصدار الحكم.. الأمر ليس سهلًا عليهم، فرغم أن ما يدور في الجلسات، يفضي بنسبة كبيرة إلى إظهار حقيقة الخلاف، غير أنهم يبحثون دائمًا عن حلول تُنهي الخلافات دون أن يتضرر أحد، وتعيد الحقوق لأصحابها.

عدد القضاة لابد أن يكون فردي، وأحدهم يعتبر "مُرجِح" يسري رأيه إن تساوت آراء باقي أعضاء اللجنة حول حكمين، وهُنا يُصبح رأيه فاصلًا بينهما، ففي إحدى الجلسات التي حضرها الدستور، كان فيها القضاة ناجي أبو محيسن العميري، علي أبو دياب الطرباني، صلاح أبو ساعد الحويطي، وربيع سنوسي، أمام الثانية، فحضرها المستشار ناجي رفعت المحامي، عيد سعد، الشيخ إبراهيم عبد الجليل، وربيع سنوسي، وكان راعي البيت فتحي العكروتي، راعي البيت، مُرجحًا في الجلستين.

بعد المُداولة، يخرج القضاة لإعلان الحكم بعد كتابته، في خطوة يسبقها قيام الأطراف بالتوقيع عليه قبل تلاوته، ودون أن يعرف الموقع علاما يُوقع، غير أن ثقتهم في نظام التقاضي الذي اختاروه، جعلهم يلتزمون بما يُسفر عنه، ويرتضون به.

يقول القضاة العُرفيين إن أحكامهم تُنهي المشاكل من جذورها، وتخلق الطمأنينة في النفوس، مطالبين محاكم وزارة العدل بالأخذ بأحكامهم في المصالحات التي تحدث قبل إصدار الأحكام في حق مُتهمين، مؤكدين أن سجن أطراف خصومة بعد التصالح فيها، تجعلها تتجدد مرة أخرى، كما أن وفاة أحد المُتهمين داخل السجون، قد تعتبره عائلته أنهُ بمثابة قتل، تُحاسب عليه العائلة التي اتهمته في البداية، وتُطالب بالثأر.