رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولى ومريد

أبوالحسن الشاذلي.. من المغارة إلى السجن


طرق صوته أذنى وهو يقول: «لا تخف من الله، ولكن اخشه، فالخوف إنما يكون من العدو، والخشية إنما تكون للحبيب، وأنت حبيبه فأحبه، فإذا أحببته ستخشاه». وكأننى قلت: أخاف الموت، فقال: الموت ليس فَناء ولكنه انتهاء وابتداء، تنتهى حالة من حالات وجودنا ثم نبدأ فى حالة كونية أخرى.
حينها انفصلت تمامًا بروحى عن المكان والزمان الذين كنت فيهما، وأخذت أسيح فى هذه الدنيا، ها هى أعمار تمضى، وأعمار تنقضى، دنيا تذهب، ودنيا تجىء، أمم ارتفعت، وأمم تهاوت، حضارات انقرضت، وحضارات بزغت، أقوام ماتوا، وأقوام ولدوا، لغات انطمرت، ولغات بُعثت، ودائرة الحياة تسير فى مسارها الطبيعى لا تنقطع أبدًا، لم تتوقف الحياة لموت أحد ولو كان أعظم العظماء، حتى الأنبياء والرسل ماتوا، واستمرت الحياة وكأنها تسعى فى دائرة مغلقة، وكأنها تطوف بلا انتهاء.
قبل أن أدخل بكم إلى تلك المحن التى تعرض لها سيدى أبوالحسن الشاذلى أقول لكم إنه مات، ومات من بعده خليفته المرسى أبوالعباس، ومات بعد المرسى خليفته ياقوت العرش، وظل الأولياء يأتون إلى الدنيا ويموتون، ولكن رسالتهم باقية لا تموت لأنها رسالة الإسلام التى تقوم على السلام والحب والرحمة، إنها أخوَّة تجمع الإنسانية كلها فى إناء الحب بوشائج من نور، وأولياء الله يأتون إلى الدنيا، نعرف بعضهم ونجهل معظمهم، ويختلط الأمر علينا فى كثير من الأحايين فنظن أن فلانًا منهم، وهو فى الحقيقة من أولياء الشيطان، فإذا أردنا أن نعرف هذا من ذاك فلننظر إلى رسالته، فإذا كانت رسالته هى السلام والحب للناس أجمعين فهذا يسير فى طريق الولاية، وإن كانت رسالته هى إراقة الدماء باسم الدين فهذا يسير فى طرائق الشياطين، ولكنك يجب أن تعرف أن هناك كنوزًا نورانية تعيش بيننا ولا نعرفها، وقد نراها فى الطريق وتزدريها أعيننا ونحن لا نعلم أن الملائكة تحفها، ورحمة الله تحتويها، ومحبة الله تُغرقها.
نعود إلى الوقت الذى ترك فيه أبوالحسن الشاذلى شيخه ابن مشيش، فبعد أن أوصاه شيخه قال له: يا على، اذهب إلى تونس.
فرد قائلًا: أين فى تونس؟.
قال الشيخ: اذهب إلى مغارة «الراهب» التى على أطراف مدينة تونس، ففيها مغارة تعبَّد لله فيها أولياء وأنبياء، اجعلها موضع سجودك حينما تدخلها.
ومولانا أبوالحسن يحب الارتحال والطواف، ويعلم أن كل هذه الدنيا تطوف وترتحل، هكذا قال لنا الله: «وسخر لكم الشمس والقمر دائبين» «لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون»، كل الكون يطوف ويطوف، ويبقى نحن، فكان أن عبَّدنا الله له بالطواف، ومع ديمومة الطواف، تتواصل الأعمار مع الأعمار، فيكون الجد والابن والحفيد وحفيد الابن وهكذا، وتظل سلسلة الخلق إلى أن يقضى الله أمره فيبتلعنا الكونُ يوم القيامة، ثم يقذفنا الله إلى يوم البعث والنشور، وكل هذا حدث فى علم الله، فنحن الآن ولدنا ومتنا وبعثنا وحوسبنا، ودخلنا جميعًا إلى رحمانية الله.
ونزل مولانا أبوالحسن فى تونس، وصلى فى أحد مساجدها، وفيه تعرف على أحد الصالحين، هو الشيخ على الحطاب الذى أصبح تلميذًا لمولانا الحسن فيما بعد، ولما سأله عن «شاذلة» اصطحبه إليها، ودلّه على مغارة الراهب فى جبل «الجلاز» الذى يقع فى الناحية الجنوبية من تونس، فصعد إلى الجبل وتوجه إلى مغارتها الشهيرة، وقد كانت هذه المغارة فيما سبق من الأزمان مغارة لأحد الرهبان الزاهدين يتعبد فيها لله، وينقطع فيها عن الناس، وستتعجبون عندما أقول لكم إن اسمه «الراهب عادل» وكان أهل تونس يحبونه كثيرًا، ويتبركون به، ويقولون عنه إنه صاحب بركة، وبعد وفاة هذا الراهب دخل مغارته كثير من الرهبان والأولياء ليعبدوا الله فيها ويذكروه وهم فى خلوتهم ذكر المحب لحبيبه، وكان منهم القطب عبدالقادر الجيلانى، والجنيد، ومعروف الكرخى، وغيرهم كثير، وكانت تلك المغارة هى التى استقبلت مولانا أبا الحسن، وكان الوادى الذى يقع أسفل الجبل يُسمى وادى الصوف، وقد أصبح فيما بعد المقبرة الكبرى لتونس وتُسمى مقبرة الجلاز. وقد حدثت عند هذه المقبرة الضخمة معركة شهيرة فى مستقبل الأيام بين أهل تونس، يتقدمهم أبناء الطريقة الشاذلية، والفرنسيين، عندما أراد الفرنسيون الاستيلاء عليها وتسوية المقابر بالأرض ليجعلوا فيها خطوطا للسكة الحديد. ومن باب التعريف بمعنى اسم جبل «الجلاز» الذى فيه المغارة الشاذلية أقول إن «الجلاز» هو الشىء الذى يلتف على بعض، ويبدو أن هذا الجبل عبارة عن طبقات تلتف حول نفسها، ولبث مولانا فى المغارة أيامًا، يسجد ويذكر الله ويقيم الليل ويقرأ القرآن ويبكى من فرط أشواقه للنور الإلهى، ثم نزل من الجبل يبحث عن ولى أرشدته روحه أنه سيلتقى به، والأولياء يعرفون بعضهم، فأرواحهم معلقة فى محبة الرحمن ومن تعلق قلبه بالرحمن تعرَّف بمن يجاوره فى المحبة، ولكن البحث عمن يتعرف عليه طال، ومولانا أبوالحسن يبحث عن الترحال إلى محطته التالية، إلى أن التقى شيخًا من كبار شيوخ التصوف فى تونس هو «أبوسعيد الباجى» وكان الباجى فيما سبق من تلاميذ القطب أبومدين الغوث، الذى كان بن مشيش من تلاميذه أيضًا، وكأنما القلوب التى أحبت الله تعرفت على بعضها عند اللقاء، لا أقول كأنها، ولكننى أقول إنها، فحينما تقابل أبوالحسن مع الباجى إذا بالباجى يقول له مرحبًا بك يا علىّ نحن فى انتظارك منذ زمن، حينها قال مولانا أبوالحسن: هذا هو الولى الذى كنت أبحث عنه فى تونس، وجلس أبوالحسن فى معية الباجى فترة من الزمن، قال عنها: «تعلمتُ منه كثيرًا، وانتفعت به كثيرًا»، وكان للباجى جلسات ذكر فى مغارة من مغارات جبل «المنار» يلتقى فيها مريديه، فظل أبوالحسن يداوم على تلك الجلسات ولم ينقطع عنها أبدًا، وفى سكنات الليل كان أبوالحسن ينقطع فى خلوته للتأمل والبحث فى أسرار الوجود، وكانت الآية الكريمة «ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك» تلازم قلبه وتسيطر على مشاعره، وقد اجتمعت فى قلب أبى الحسن كل نوازع الخير، من إغاثة الملهوف وأصحاب الحوائج، مع البعد عن الناس والزهد، ولو أتيحت لكم الفرصة فرأيتموه فى ذلك الزمان لعرفتم أنه رجلٌ هام فى محبة الله، فالصب تفضحه عيونه، وحب الله ينير الوجوه، ومع سمار وجهه إلا أنه كان كالبدر المنير، فمن أحب اللهَ أكسبه اللهُ نورا على نور، وجعل فى خلجات وجهه مهابة. ولأن الله كتب علينا الموت، مات الولى أبوسعيد الباجى وورث أبوالحسن حلقته الصوفية، واكتسب حينها لقب الشاذلى، إذ إنه كان يسكن فى المغارة الشاذلية، والتف عددٌ كبير بالشاذلى، واهتم هو بتربية المريدين، والصعود بهم إلى مقامات معرفية من علوم الباطن، ولكن بضاعة علماء الحديث والتفسير بارت بوجود الشاذلى، وأغضب ذلك أحدهم ويُدعى أبوالقاسم بن البراء، فقدَّم للحاكم شكوى ضده يتهمه فيها بالمغالاة ومخالفة الشريعة، فكانت المحاكمة الأولى والتى سنورد خبرها فى الحلقة القادمة.