رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أثناسيوس.. «كونترا موندم»


المثل اللاتينى المشهور الذى تردد فى العالم كله فى القرن الرابع الميلادى: «أثناسيوس كونترا موندم»- Athanasios Contra Mundum» أى «أثناسيوس ضد العالم»، يُضرب هذا المثل على الإنسان الذى يَثْبُتُ على رأيه رغم إجماع الناس على معارضته. لهو أجمل الأمثلة على أحقية الفرد فى إبداء رأيه ولو ضد الجموع، وعلى إمكان أن يصبح حكمه دون حكم الجموع، وليس الانفراد فى الرأى يعنى بطلانًا فى الدعوى دائمًا، كما أن ألسنة الخلق ليست على الدوام أقلام الحق، وليس الانكسار دليلًا على عدم الانتصار، وأيضًا على الإنسان الذى يَثْبُتَ على رأيه ولا يتراجع عنه. وكم من أُناس بيننا ليس لديهم مبدأ ولا رأى يثبتون عليه!!.
أثناسيوس هو البطريرك العشرون من بطاركة الكنيسة القبطية، وُلد عام ٢٩٥م بمدينة الإسكندرية لأبوين مصريين، وقدمته أمه الواعية للبابا إلكسندروس البطريرك ١٩؛ ليكون شماسًا له، وهو لم يتعد بعد سن ١٢ عامًا، تتلمذ أثناسيوس على كتب آباء كنيسة الإسكندرية الأبطال، أمثال أوريجانوس وأكليمنضس السكندرى، كما اهتم بدراسة الكتاب المقدس بعهديه، ثم ذهب للصحراء، حيث قضى حوالى ٣ سنوات فى تلمذة الأب أنطونيوس أب رهبان البرية المصرية، بل وأب رهبان العالم كله، وشرب منه القداسة والحكمة والروحانية والنُسك، ما أروعك أيها الشاب «أثناسيوس»!.
قضى الشاب أثناسيوس شبابه شماسًا أمينًا على خدمة البابا إلكسندروس، فى خدمة الفقراء، وفى الوعظ والتعليم والكتابة ضد الوثنيين، حتى ظهرت بدعة «أريوس». و«أريوس» هذا كان كاهنًا بالكنيسة المرقسية بالإسكندرية، وهو من أصل ليبى وكان خبيثًا، فبدأ ينشر بدعته المُدمرة عن طريق الترانيم والوعظ الخادع، وقد نبهه البابا إلكسندروس كثيرًا ليرجع عن ضلاله فرفض، عندئذ جرده البابا من رتبة الكهنوت.
ورأى الشماس أثناسيوس وهو صبى الاضطهاد الذى قام به الإمبراطور دقلديانوس ضد مسيحيى الإسكندرية، إذ كانت الإسكندرية فى ذلك الوقت- كما يقول المؤرخ الكنسى القدير د. منير شكرى مترى «١٩٠٨ – ١٩٩٠» - هى المعمل الذى خرج منه الفكر الدينى المسيحى الذى أضاء ليس فقط على مصر بل على جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية بفضل مدرستها اللاهوتية.
لما انتشرت بدعة أريوس فى العالم وزاد الشقاق، دعا الإمبراطور قسطنطين إلى عقد مجمع من ٣١٨ أسقفًا من أنحاء العالم بمدينة نيقية «وهى اليوم قرية صغيرة فى الأناضول باسم أسنيك»، وقد انعقد المجمع عام ٣٢٥م، وحضره البابا إلكسندروس وشماسه الشاب أثناسيوس، ظهرت صلابة الشاب أثناسيوس فى مجمع نيقية، فقد كان نابغةً قلما يجود الزمن بمثله، حتى إنه سيطر على تاريخ القرن الرابع الميلادى، لم يخش الشاب أثناسيوس سطوة الإمبراطور ولا قسوة المتفوهين بالكلام المعسول ولا تهديد أصحاب البدع والهرطقات؛ لأنه كان صاحب رسالة ويعرف الحق وينعم بحرية البنين لا خوف العبيد.
حضر الإمبراطور قسطنطين الاجتماع وأخذ يقبّل آثار جراحات الآباء الأساقفة؛ لأن هذا العصر كان ما بعد عصر الاستشهاد مباشرة، وأغلب الأساقفة قد نالوا بعض العذابات فى جسمهم. كما حضر المجمع أريوس الذى جاء بكبرياء وثقة فى نفسه؛ ليناقش المجتمعين، ولم يكن يدرى بلاغة وقوة حُجة الشماس الصغير أثناسيوس الذى فند كل حججه، والذى لم يتجاوز ٢٥ عامًا فى ذلك الوقت!! احتج أريوس وطلب خروج أثناسيوس من المجمع؛ بحجة أنه شماس وليس أسقفًا، ولكن جميع الحاضرين كانوا مُعجبين ببلاغة الشماس أثناسيوس وأصروا على بقائه.
بعد مناقشات قرر المجمع وضع قانون الإيمان المسيحى- الذى ما زالت جميع كنائس العالم تردده حتى الآن، ولو أن الكنيسة الكاثوليكية خالفت بعض النصوص فيه!! فكيف تتم الوحدة المزعومة معهم- وجاء فى القانون: «بالحقيقة نؤمن بإله واحد..» واختاروا ثلاثة لصياغته، هم إلكسندروس بابا الإسكندرية وشماسه أثناسيوس وليونيتوس أسقف قيصرية الكبادوك، وكان عقل أثناسيوس هو بحق الذى وضع قانون الإيمان، كما قرر المجمع حرمان أريوس، كذلك ناقش المجمع ميعاد الاحتفال بعيد القيامة، وأخذوا برأى آباء الإسكندرية، وهو أن يكون بعد الفصح اليهودى، وطالبوا البابا السكندرى بأن يحدد ميعاد العيد سنويًا ويرسله لبقية الأساقفة فى العالم، أما الآن فقد ظهرت فى أروقة الكنيسة القبطية بدعٌ جديدة تدعو إلى توحيد عيد القيامة سنويًا مخالفة لما استقر عليه الآباء فى مجمع نيقية، وهذا أمر مرفوض جملة وتفصيلًا وليس «كلكعة» كما يدعى غير العارفين.
وقد كتب أثناسيوس حوالى ٥٠ رسالة فصحية، واحدة فى كل عام لبطاركة العالم وهذه الرسائل موجودة الآن بين أيدينا ونشرتها جامعات الغرب، بعد نياحة البابا إلكسندروس استقر رأى الجميع على اختيار الشماس أثناسيوس بطل مجمع نيقية، فكان اختيارًا قانونيًا. عاش البابا أثناسيوس فى سلام فى الإسكندرية- مقر كرسيه- مدة ٣ سنوات فقط، فى أثنائها دخلت المسيحية للحبشة وأقام لها أول أسقف باسم «فرمونتيوس»، ومن وقتها صارت الحبشة تابعة لكرسى الإسكندرية.
تعرض البابا أثناسيوس للنفى خمس مرات والاضطهادات والعذابات، ولم يلن أو يضعف أو يستنجد بقوى خارجية أو حراسة خاصة تحيط به فى كل مكان، بل قدّم مثلًا فى تحمل الآلام من أجل المبادئ، وفى الثبات على الحق، هذا البطل المصرى قال عنه القديس باسيليوس الكبير: «إنه بمثابة منارة فاروس إحدى معالم الإسكندرية مدينته وإحدى عجائب الدنيا السبع».
فى ١٥ مايو ٢٧٣م رحل البابا أثناسيوس عن عالمنا فى شيخوخة صالحة، حتى إن القديس غريغوريوس النازينزى رثاه بقوله: «هكذا انطفأ أثناسيوس عين العالم المقدسة، والصوت العالى للحق، عامود الحق والسراج الثانى المضىء فى طريق الرب.. وبعد أن قاسى كثيرًا من الدسائس الباطلة وصمد لكثير من الهجمات إلى حيث أسلافه من البطاركة، فنال من التكريم عند تركه هذه الحياة ما لم يره حتى فى أعظم انتصاراته، وأقيم له من الدموع الغزيرة التى سُكبت ومن الذكريات الخالدة نصب تذكارى».
البابا أثناسيوس ابن من أبناء مصر، عاش على هذه الأرض مثلنا، وارتوى من ماء النيل العظيم، وأكل من خيرات أرضنا. فقط عرف الحق وتمسك به والتحف بالشجاعة، فكان صلبًا فى جميع مواقفه وأنقذ المسيحية كلها من خطر الفكر الأريوسى، الذى كاد يهدد العالم كله. فلماذا نضعف إذن؟ وممن نخاف؟ علينا ألا نتردد فى المجاهرة بالحق حتى الموت، فالأفضل أن نكون بلا رأس من أن نحيا بلا ضمير.