رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ولى ومريد 5»..

الفضيل بن عياض.. جار البيت الحرام


بماذا انتهينا فى الحلقة السابقة؟ كنا نتحدث عن واحد من أئمة الزهد فى تاريخنا، الفضيل بن عياض التميمى، عرفنا أنه كان لصًا يقطع الطريق على الناس ويسرق أموالهم، وأنه حينما أحب فتاة وشغف بها رق قلبه، وتقدم لها فرفضته فتسور بيتها ليأخذها عنوة، حينها سمع صوتًا من الدار يقرأ قول الله تعالى «ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق»، حينها اهتز قلبه وارتجف جسده، تصوَّر أن الله يخاطبه هو، وكأن الله أنزل هذه الآية له دون غيره، وإلا لماذا وقت أن تسور الحائط ونزل إلى الدار كان الذى يصلى يقرأ هذه الآية دون غيرها، إذ لربما لو كانت آية أخرى لما اهتز فؤاده، وعندما سمع الفضيل الآية قال: «بل آن يا رب، بل آن يا رب».
 قفز الفضيل من على السور عائدًا، وأخذ ينهب الأرض نهبًا، ويسير بغير هدى وقلبه مشغول ودموعه تنساب رغمًا عنه، ما هذه الحالة التى لم يمر بها من قبل؟!، هل يذهب إلى المسجد، أم يعود إلى داره؟، قادته قدماه إلى خرابة بعيدة عن بيوت الناس، وكان ظلام الليل حالكًا، وفى وسط هذه الظلمة انزوى الفضيل فى ركن قصى وأخذ يبكى ويتفكر فى حاله وفى معاصيه التى ارتكبها، هل يغفر الله له؟ تذكر آية كان يسمعها مرارًا، ولكنها لم تلامس شغاف قلبه حينها، هى قول الله «قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا»، وفجأة وجد جماعة من التجار جلسوا على طرف المكان الذى كان فيه، وسمع واحدًا منهم وهو يقول لأصحابه، يجب أن ننيخ الإبل هنا ونستريح للصباح، فلو ظللنا فى مسيرنا سيقطع الفضيل بن عياض علينا الطريق ويسرق بضاعتنا.
يا الله وهذه رسالة أخرى تصل إليك مِن الله يا فضيل وأنت جالس فى مكانك، فأنَّبَ نفسه، من أنت يا رجل حتى يخافك الناس؟!.. أيخافك الناس ولا تخاف أنت من الله؟! هنا قال الفضيل: «أنا أسمع اسمى بالليل فى المعاصى، وقوم من المسلمين يخافوننى ها هنا، وما أرى اللهَ سائقى إليهم إلا لأرتدع، اللهم إنى قد تبت إليك وجعلت توبتى مجاورة البيت الحرام»، أى أن علامة صدقه فى توبته أنه سيظل ملازمًا لبيت الله الحرام يتقرب إلى الله بالقرب منه، وعاد الفضيل إلى داره وهو يتشوق للذهاب إلى مكة لكى يجاور الحرم، والمسافة بين خراسان التى يقيم فيها ومكة كبيرة، فخراسان تقع فى الشمال الغربى من أفغانستان، وأمامه أكثر من ثلاثة آلاف من الكيلوات يقطعها ليصل إلى مكة، وسبحان الله، وصلت له آية «ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله»، ودخلت قلبه وحركت فؤاده وارتجف لها جسده فى «اللا زمن»، ولكنه لكى يصل إلى مكة سيقطع زمنًا وزمنًا، وحينما نظر الفضيل إلى حاله وجد أن معه أموالًا كثيرة اقترفها من السرقة، ولم يجد معه شيئًا من الدِين، أيذهب إلى مكة ويُقْبل على الكعبة وهو لا يعرف شيئًا من دينه؟!.
اغتسل الفضيل، وتوضأ وصلى، ثم جمع أمواله وتصدق بها جميعًا، ولم يُبق لنفسه شيئًا اللهم إلا بعض دنانير كان قد ورثها عن أبيه، ثم عزم أمرًا، لن يذهب الآن إلى مكة، ولكنه سيذهب إلى الكوفة ليبحث عن المعرفة، فقد غلبه الحياء أن يجاور الكعبة وليست لديه معرفة بدين الله، ودخل الفضيل الكوفة وأخذ يجلس فى مجالس العلم الدينى، يسمع منهم عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويتتبع آثاره فى الأخلاق والزهد، وشغف بالأحاديث التى كانت تدور فى تلك الدائرة، وأخذ يحفظ القرآن ويتأنى فيه، ويتدبره، كل ذلك وهو يتكسب رزقه من عمل يديه، إذ كان ينتظر فى الأسواق ليحمل بضائع التجار وينقلها من ظهور الإبل إلى حوانيتهم ومخازنهم، ويتكسب من ذلك بضعة دنانير قليلة، ثم يذهب إلى دروس المشايخ ليتعلم، ويبدو أنه كان فى شدة النهم للمعرفة، وكان حريصًا على استدراك ما فاته من العلم، وازداد حرصه على المعرفة عندما وجد لها لذة ومتعة، وللمعرفة متعة، وفوق هذا كان للفضيل نجابة وذكاء وفطنة، الآن أصبح يملك توبتين، توبة القلب الذى عاد إلى الله، وتوبة المعرفة والمتابعة الدقيقة لحال رسول الله وأخلاقه ورحمته وزهده.
وقد استغرق الفضيل فى هذا زمنًا قليلًا حتى بلغ شأنًا عظيمًا، ولا يغرنك ضيق الوقت طالما أن القلوب اتسعت، والله يؤتى الحكمة مَن يشاء مِن عباده، وإذا كنت تظن أن المشيئة هنا عائدة على الله فتمهل قليلًا، نعم مشيئة الله غالبة، ولكن الله يعطيها لمَن يستحقها، والذى يستحقها هو مَن يشاءها، والذى يشاءها هو الذى يسعى إليها، فإذا سعى إليها واجتهد للوصول لها أعطاه الله منابعها يغترف منها ما يشاء والله ذو الفضل العظيم، وكان الفضيل يقول: «يصل الناس للعلم بالتعلم، ويصل العارف إلى الحكمة بالتحلم» أى بالحلم والصبر على أذى الناس.
وكان الفضيل قد تزوج وأنجب، واشتهر بين الناس بالحلم والسماحة والزهد، الآن رأى أنه أهلٌ للذهاب إلى مكة ومجاورة الحرم للبر بِقَسَمْ توبته، فلملم حاجياته وأخذ أهله وتوجه إلى مكة ليدخلها أول مرة حاجًا، كان قلبه يتهيب تلك المقابلة، فحينما رأى الكعبة ارتعد جسده وأخذ يبكى وهو ذاهل عن الناس، ومن بعدها ظل الفضيل فى مكة مجاورًا للبيت الحرام، مجتهدًا فى العبادة، يصحبه فى ذلك الورع الدائم، وخشية الله، والبكاء الكثير، والتحلى بالوحدة، والبعد عن الناس، وفى أحد الأيام سمع ابنه «على» يقول: «أتمنى أن أرى الناس ولا يرونى»، فقال له: «هلا قلت أتمنى ألا أرى الناس ولا يرونى!»، وكانت الدنيا تُعرض عليه، ولكنه آثر أن يعيش فقيرًا ليس له دخل إلا من جزء خلفى من بيته كان يقوم بتأجيره للمسافرين والحجيج لقاء دراهم معدودة، ومن سيرته أنه عندما رأى رجالًا يضربون رجلًا فى الطريق قال: ليس من حق أحد أن يؤذى خنزيرًا أو كلبًا، فما بال هؤلاء يؤذون إنسيٍّا!! وعندما تناقل الناس خبر زهده وعلمه سمع عنه الخليفة هارون الرشيد، فطلب من سفيان بن عيينة أن يُحضره إلى مجلسه، فذهب الفضيل إلى هارون وعندما دخل إلى قصره وجد سفيان بن عيينة جالسًا وحوله جماعة من الناس، فقال الفضيل: يا سفيان أيهم الأمير؟، فأشار سفيان إلى الخليفة، فقال له الفضيل: «يا حسن الوجه أنت الذى أمر هذه الأمة بيدك، لقد تقلدت أمرًا عظيمًا» وأخذ يعظه، فبكى الرشيد، وصار من بعدها عندما يذهب إلى مكة يزور الفضيل فى بيته، وعندما نظر الرشيد إلى حال الفضيل وزهده قال له: يا فضيل أنت أزهد الناس، فقال الفضيل: أنت أزهد منى، فتعجب الرشيد، وقال: كيف؟!، قال الفضيل: «أنا زهدت فى الدنيا وهى فانية، وأنت زهدت فى الآخرة وهى باقية»، وظل الفضيل على هذا الحال بين الزهد والورع ومناصحة الأمراء، حتى مات بجوار الكعبة وهو فى الثمانين.