رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«إسلاميات كاتب مسيحى 4»..

محمد الباز يكتب: بذرة التسامح الأولى عند نظمى لوقا

جريدة الدستور

- كيف جمع طفل مسيحى محبة محمد والمسيح فى قلب واحد؟
- غاندى كلمة السر فى إيمان نظمى لوقا بالتسامح وجمع الديانات فى قلب واحد
- كان يعتقد أن الأديان كلها «إخوة فى التوجه إلى الله»
- حفظ آيات من القرآن على يد شيخه البخارى

كانت نية والد نظمى لوقا من إرساله إلى مجلس الشيخ عبدالله البخارى، أن يتعلم صغيره أصول اللغة، ولا مانع من حفظ بعض الآيات من القرآن حتى يصبح خطيبًا بليغًا مفوهًا.
لكن من قال إننا نختار الطريق كله، إننا بالكاد نضع أقدامنا على بدايته، ثم يقودنا هو إلى حيث يريد، وهو ما جرى مع نظمى تماما.
كان رد فعل والد نظمى عندما همس أحدهم فى أذنه بأن ولده يتعرض لخطر كبير، فهو يحفظ آيات القرآن على يد شيخه، وهو ما يمكن أن ينسيه كتابه، أن أجلسه إلى الإنجيل وأرسله إلى الكنيسة، ما جعل الطفل الصغير فى حيرة من أمره، فأى سبيل يسلك، وإلى أى طريق يتجه.
ولما كان شيخه قدوته وبوصلته ودليله، ذهب إليه، ولما جلس بين يديه بدأت الرحلة الكبرى التى خاضها نظمى فى حياته حتى أصبح رمزًا من رموز التسامح ومحطة مهمة من محطات المحاولة الكبرى لجمع الديانات كلها فى قلب واحد دون تناقض أو تنافر.
هل تريدون أن تشهدوا اللحظة التى تم فيها زرع هذه البذرة؟.
استمعوا إلى نظمى لوقا وهو يحكى ما جرى.
يقول: التمس الفتى عند شيخه الهداية، فتحرج الشيخ أن يطرق الموضوع، بيد أنه حدّثه عن العقل، وأنه الإمام الذى أنعم الله به عليه، وأن الدين المتين يقوى بالتفكير والتعقل، وأن اليقين الذى لا يصمد للشك يقين زائف، والمطمئن إليه مخدوع كمن يشيد بيته على الرمال.
فى جلسة وضع البذرة الأولى فى العقل النقى تحدث عبدالله البخارى مع نظمى، كما يقول، عن رجل سمع به لأول مرة، وكان لاسمه ونهجه أثر حاسم فى حياته من بعد.
لم يكن صاحب الاسم واحدًا من رجال الدين المسيحى الكبار وقديسيه، ولم يكن واحدًا من علماء الإسلام ولا حتى رجالاته الكبار، ولكنه كان «غاندى».
قال البخارى لنظمى إن غاندى كان يصلى بآيات من القرآن والإنجيل والتوراة والبراهما.
ظل غاندى مع نظمى لوقا لا يفارقه أبدًا، قرأ عنه وتعرف على حياته وتتبع قصة كفاحه، وأصبح واحدًا من أئمته فى الحياة، ولذلك لم يكن غريبًا أن يهدى كتابه «محمد الرسالة والرسول» إلى غاندى الذى جسّد بالنسبة له قمة التسامح، ليس لأنه كان يردد كلامًا إنشائيًا سرعان ما يتبدد فى الهواء، ولكنه دفع ثمن موقفه وقناعته واقتناعه.
قال نظمى فى الإهداء: «إلى السائرين فى الظلمة وإلى من يلوح لهم من أنفسهم فجر جديد.. وأيضًا إلى الروح العظيم مهاتما غاندى.. الذى كان يصلى بصفحات من براهما وآيات من التوراة والإنجيل والقرآن، ومات بيد هندوسى متعصب، شهيد دفاعه الصادق المجيد عن حرية العبادة لأتباع محمد».
الحكاية كلها تلخصت فى هذا الإهداء.
فى كتابه «أنا والإسلام» تطرق إلى ما تمثله كلماته إلى غاندى ليس بالنسبة لكتاب «محمد الرسالة والرسول» فقط، ولكن لمنهجه ومذهبه الفلسفى كله.
يذهب نظمى إلى أن المرء لا يحتاج إلا إلى نصيب من الفطنة كى يفهم أن لهذا الإهداء إلى غاندى، المشفوع بحيثياته، مغزى معينًا.
يقول: الرجل ليس من ذوى قرباى، ولا من بنى وطنى، ولا من أهل ديانتى، ولا من أتباع محمد، وليس لى به أى علاقة تجعل الإهداء موجهًا إلى سواد عينيه، كما يقول المثل الدارج، فليس من العسير على القارئ العام أن يستشف من هذا الإهداء أنى عنيت به أنه النموذج أو النمط الفكرى والنفسى والسلوكى الذى أدعو إليه فى النظر إلى العقائد كلها على اختلافها نظرة احترام وتكريم وإخاء.
كانت الرسالة التى يحملها نظمى لوقا على كتفيه واضحة جدًا، لكنه استعان بصديقه غاندى بإهداء عمله إليه للتأكيد عليها، ولتقديم نموذج حى لها.
يقول: لتكن ديانتك ما تكون، فهذا شأنك وحدك، ولكننى أدعوك ألا تتخذ منها ذريعة للتعصب ضد الديانات الأخرى، بل اجعل من جميع أتباعها إخوة لك، واجعل من كل تلك الديانات أخوات لديانتك فى التوجه إلى الله، فى تنزه عن الأنانية والتعصب، وفى حب شامل للبشرية كافة.
تعمد نظمى لوقا بهذا الإهداء الاستهلالى أن يجعل المثل هو غاندى، الذى كان يحظى فى ديانته بمرتبة القداسة، وهو ليس مسيحيًا ولا مسلمًا، ولكنه موقن بأن جوهر كل الديانات منحصر فى أنها سبل تتجه بالمؤمنين بها إلى الله وإلى الفضيلة ومكارم الأخلاق التى هى نقيض الأنانية.
يخلص نظمى من ذلك إلى قيمة مهمة جدًا صاغها بحرفية شديدة.
يقول للمرة الثانية: لتكن ديانتك على عينك ورأسك، ولكن حذار أن تجعلها خندقًا ترمى منه العقائد الأخرى أو أتباعها بالكراهية والازدراء أو سوء الفهم، بل كن مثل غاندى روحًا عظيمة تجتمع فيه محبة كل البشر، واحترام جوهر كل الديانات.
كان هم نظمى لوقا وهدفه أن يفهم الجميع دلالة إهدائه، لكنه قابل نماذج كثيرة تعبر عن سوء الفهم.
بعد صدور كتابه قابله دكتور فى الفلسفة له بعض الشهرة، كان يتعامل معه نظمى على أنه رمز للاعتدال والمعقولية، يحكى الفيلسوف المطارد: التقى بى فى مكان ما، ولما عرّفوه من أنا قال إنه لا يأخذ على كتابى إلا ما سماه مجافاة اللياقة وتأدبًا منه لم يقل الجليطة، لأنى أهديت كتابى عن رسول الإسلام إلى رجل لا يدين بديانة سماوية، وهو غاندى وزوى الرجل فمه وقد زم شفتيه فى امتعاض.
تجاوز نظمى الموقف لكنه علق عليه بقوله: ضيق أفق الرجل حال بينه وبين إدراك المنظور الإنسانى الموضوعى، الذى يرتفع فوق خانة الديانة المسجلة فى البطاقة الشخصية، ليرقى إلى مستوى الجوهر من كل تدين، ومن كل سماحة وإخاء إنسانى.
كان هناك تعليق أكثر قسوة، وأحسب القسوة هنا على نفس نظمى وليست علىّ أو عليك.
يقول: وطبيعى أنه ما دام هذا هو المعيار الوحيد الذى يقيس به هذا الجهبذ مواقف الناس ومعادنهم، فلا بد أنه امتعض أيضًا من تناول رجل مسيحى متمسك بمسيحيته موضوعًا إسلاميًا كهذا، فمن فاته إدراك عظمة ونبل موقف غاندى الذى انتهى به إلى الاستشهاد فى سبيل دفاعه عن حرية المسلمين فى العبادة والتدين، أولى به أن يفوته فهم موقف من هو مثلى، على ما فى ذلك الرجل من ذكاء ذهنى فى الشرح والتوضيح كلما تناول نصًا من نصوص ديانته أو مهنته، غفر الله له وتغمده برحمته.
لم يكن غاندى بتجلياته هو المكون الوحيد فى بذرة التسامح التى ألقى بها الشيخ البخارى فى قلب نظمى لوقا، حدثه أيضًا عن متصوفة الإسلام، وعن محيى الدين بن عربى، وكيف أن لباب الدين كله واحد عند من ينفذون إلى الجوهر وينبذون القشور.
كان البخارى يعرف حيرة الصغير، الذى وجد نفسه بين تعليم القرآن على يد شيخه وقراءة الإنجيل بتعاليم واضحة من أبويه، فوجد شيخه يقول له: اقرأ يا بنى كتابك بنفسك، واحتكم إلى عقلك، واعلم أن كل دين ينهى عن قالة السوء، وعن فعل السوء، وعن تفكير السوء.
بقى فى قلب الشيخ البخارى ما هو أهم.
كان الطفل نظمى لوقا قد حضر عظة ألقاها واعظ مشهور زار مدينة السويس، احتشد الأقباط لسماعه، لكن العظة فجأة تحولت إلى التنديد الشديد بطائفة البروتستانت والهجوم عليهم، ولم ينه الواعظ كلامه إلا بعد أن أطلق عليهم اسم «الذئاب الخاطفة»، وحرض على خصامهم واختصامهم.
اعتقد نظمى لوقا أن هذا الختام قد يكون كافيًا جدًا.
لكن من قال إن المفاجآت عندما تتوالى تتوقف.
لم يغادر الواعظ الأرثوذكسى منصته إلا بعد أن قال: لا يحل لقبطى أن يصافح أحدًا من البروتستانت أو يرد عليهم السلام.
كان ما سمعه نظمى مفزعًا، فقد صوّر له عقله الطفل أن البروتستانت أشخاص من ذوى الأنياب الكاشرة والمخالب الكاسرة، ولم يجد أمامه إلا الشيخ البخارى ليدله على الطريق.
سأله الشيخ البخارى أولًا: أواثق أنت مما سمعت يا بنى؟.
فرد عليه الصبى الصغير دون أن يفكر: كل الثقة يا مولانا.
وجد الشيخ البخارى نفسه أمام مهمة شاقة، إنه لا يواجه أزمة تعتصر تلميذه، ولكنه يواجه حالة من التعصب لا تعرفها الأديان أبدًا، ولا سبب لها إلا هؤلاء الذين يريدون احتكار الحديث باسم الأديان، فيضيقونها على الناس رغم أنها ما جاءت إلا من أجل سعتهم وسعادتهم.
قال البخارى لنظمى: أعوذ بالله.. إن مسيح هذا الواعظ ليس مسيح الناصرة ولا مراء، فالمسيح الناصرى يقول: أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، اقرأ إنجيلك يا بنى وافتح له بصيرتك واصدد عن مفسرى السوء ما استطعت.
جرت هذه الوقائع بين عامى 1926 و1930، فقد قضى نظمى لوقا فى السويس أربع سنوات، انتقل بعدها مع والده إلى القاهرة، وبعد أربعة عشر عامًا تزوج، كان هذا فى العام 1944، والمفاجأة أن زوجته وهى الدكتورة صوفى عبدالله كانت بروتستانتية، وكأنه بذلك يثبت عمليًا مخالفته للواعظ الذى تحدث إليه طفلًا وكان مخالفًا لكل ما يقوله المسيح.
اكتشفت صوفى عبدالله للمرة الأولى من إهداء أول كتاب قرأته لنظمى لوقا، وهو «محمد فى حياته الخاصة».
قال عنها: صوفى.. وصلتنى وقد قطعنى الناس، وواستنى وشدت من عزمى، وكانت سكنًا لنفسى وملاذًا، قالت لى: لا تهن يا رجل، حين أقبلت المحن كأنها قطع الليل، خير زوجة وخير صديق وخير أم، خير شريكة هى فى أمانة الفكر وأمانة القلم وأمانة الحياة.
ثم وجدت اسمها فى إهداءات كتب أخرى.
فى كتابه «الله وجوده ووحدانيته بين الفلسفة والدين»، قال: إلى صوفى عبدالله الكاتبة الألمعية والزوجة الوفية التى فى ظلها عاش عقلى.
وفى كتابه «الله أساس المعرفة والأخلاق عند ديكارت» كتب لها: إلى التى لولا وقوفها إلى جانبى على امتداد نيف وربع قرن من المشاركة الفكرية لما استطعت، أغلب الظن، أنجز شيئًا مما لعلى أنجزت، إلى خير صديق وخير شريك فى أمانة الفكر وأمانة الحياة.
سيكون مفاجئًا بالنسبة لكثيرين عندما يعرفون أن صوفى عبدالله كانت أديبة لها اسمها وأعمالها الروائية والقصصية، ولدت فى العام 1925 أى بعد نظمى بخمس سنوات، وتوفيت فى أكتوبر من العام 2003 أى بعد رحيل رفيق مشوارها بما يقرب من 16 سنة.
والمفارقة أن أحدًا لم يتذكرها أو يشعر برحيلها إلا الكاتب والأديب يوسف الشارونى الذى أمسك بسيرتها، وخيرًا فعل، فربما دون ما قاله ما عرفنا عنها الكثير، وأصبح نصيبها كنصيب زوجها الذى اجتهد الجميع على إخفاء حياته وآثاره.
تلقت صوفى تعليمها فى معاهد أجنبية إنجليزية وفرنسية وإيطالية، ثم فى معهد نسائى، كما تلقت دروس اللغة العربية على يد أستاذ بمنزلها منذ سن السابعة.. وبدأت كتابة قصصها الأولى فى العام 1942 أى قبل عامين فقط من زواجها من نظمى، ومنذ العام 1948 تولت التحرير وكتابة الرواية والقصة القصيرة والمقال بمجلات دار الهلال، وطوال خمسة عشر عامًا تالية قامت صوفى بتلخيص الكتب والمسرحيات العالمية لمجلة الهلال، وبلغ إجمالى ما نشرته باسمها أكثر من مائة كتاب ورواية ومجموعة قصصية وكتب مترجمة، ورغم ذلك لم تحصل على التقدير الذى تستحقه أبدًا.
فى سنوات عمرها الأخيرة وقفت بباب دور النشر لسنوات فى محاولة عابثة لتنشر ثلاث مجموعات قصصية.
الأولى هى «عيون لها أسنان» وقدمتها إلى دار روزاليوسف.
والثانية «فى انتظار أمل» وتقدمت بها إلى دار أخبار اليوم.
والثالثة كانت «حالة تلبس» واختصت بها دار الهلال التى قدمت لها من قبل كل سنوات عمرها وجهدها.
لم تلق صوفى المعاملة التى تستحقها، قيل لها إن بعض نصوصها فُقدت، وتجاهلتها الدور الثلاث تمامًا، وكأنها كانت تشارك زوجها نظمى لوقا فى أقداره تمامًا.
كل ذلك لا يشكل أى مفاجأة بالنسبة لى فى الحقيقة، بل يأتى ما حدث معها فى الحياة الأدبية والثقافية كأمر طبيعى جدًا، لكن المفاجأة الكبرى التى تهمنى تمامًا فى سياق محاولة رد الاعتبار لزوجها العظيم، أن صوفى كانت تنتمى إلى طائفة البروتستانت.
الحب كما الموت قدر، ولا يمكننى القول بأن نظمى لوقا بحث عن فتاة بروتستانتية ليحبها ويتزوجها، ردًا على الواعظ الذى حرّم السلام مجرد السلام على أبناء طائفتها، لكنها الأقدار التى تسعى بنا إلى اكتمال صورة تريدها لنا.
فالمتمرد الأبدى كان لا بد أن يكون نصيب قلبه مثل نصيب عقله.
كان زواج نظمى لوقا من صوفى عبدالله تعويضًا من القدر له فيما يبدو، فقد لاقى الكثير فى حياته عناءً وعنتًا، وأعتقد أنه ما كان له أن يتحمل شيئًا من هذا كله، إلا إذا كانت معه زوجة ليست قوية فقط ولكنها مقتنعة أيضًا بما يقوله ويكتبه.
نظمى فى النهاية كان تركيبة صعبة جدًا، وأعتقد أن رد فعل المجتمع عليه كان يجعله عنيدًا، ثم أنه ما كان يسعى إلى المال، بل جعل من نفسه صاحب رسالة، وهذه أيضًا مسألة معقدة جدًا، تحتاج إلى زوجة ذات مواصفات خاصة لتقبلها وتتحملها دون احتجاج أو غضب أو تطلع.
بين يدى بطاقة تعريفية بنظمى لوقا فى أرشيف دار الهلال، كتب معلوماتها بنفسه كما يبدو من صياغتها.
تحت الحكمة المفضلة كتب: لا تخش فى الحق لومة لائم.. وماذا يربح الإنسان إذا كسب العالم وخسر نفسه.
وتحت الأمنية المفضلة كتب: لا أستطيع أن أحصى أمنياتى، ولا أحب أن أذكر بعضها على وجه التحديد، وكلها على كل حال أمانٍ غير مادية.
وعندما طلبوا منه بيانات أخرى يحب هو أن يضيفها، كتب أنه تركيبة متناقضة من السذاجة والكبرياء وسرعة الغضب والتسامح، يغفر لكن لا ينسى، مصاب بداء السكر وداء المعرفة وداء الصراحة وداء المبادئ الخلقية.
من صوره القليلة التى بين أيدينا وما قاله عن نفسه تستطيع أن تعرف بسهولة مدى اعتداد نظمى بنفسه، وهو ما أشقاه كثيرًا فى حياته، ومؤكد أنه أشقى من كانوا إلى جواره، ولو لم تكن صوفى متفهمة جدًا لما كان عليه زوجها ما أعانته ولا وقفت بجواره.
لقد دفعت صوفى ثمنًا كبيرًا لزواجها من نظمى، لكنى أعتقد أن الثمن الذى دفعته يوم وفاته كان أفدح، فقد تحملت مشقة نفسية عاتية، عندما كانت تسير وراء تابوته، وهو يتحرك من كنيسة إلى كنيسة، ولا أحد يقبل الصلاة عليه.
وقفت أمام كنيسة «مار مرقس» بكليوباترا بمصر الجديدة، فلم يفتح لها أحد بابًا، وهو ما فعلته كل الكنائس الأرثوذكسية، صدتها ومنعتها، وأغلقت فى وجهها ما تعتقد أنه نوافذ الرحمة الكاملة.
يومها لا أعرف بأى شىء كفرت صوفى على وجه التحديد.
لكن المؤكد بالنسبة لى، على الأقل، أنها زادت إيمانًا بأن زوجها على حق.
هل نعود مرة أخرى إلى الشيخ البخارى؟.
ولم لا؟!.. فقد كان سببًا فى أن يمسك نظمى لوقا بأول خيوط التسامح الكبير بين المختلفين فى الأديان، يرى أن ربهم واحد، فلماذا كل هذا الصراع الذى لا نهاية له؟.
زرع البخارى فى قلب تلميذه الصغير البذرة إذن، وهو ما جعله يذهب فى تقدير الشيخ إلى ما لا يتصوره أحد.
يقول: حفظ الفتى القرآن لتسع، وحفظ المعلقات وديوان الحماسة وقرأ اللزوميات، وافتُتن بأبى العلاء والمتنبى على وجه الخصوص، وأصبحت سيرة الرسول والخلفاء الراشدين آلف لديه من عشرائه، يكاد يقدس ابن الخطاب وابن أبى طالب، والشيخ من وراء ذلك كله أعز عليه من أهل الدنيا جميعًا.
جرى بين الشيخ وفتاه ما دفعه إلى أن يقول عنه: أصبح الشيخ أقرب إلى الفتى من آله وذويه بهذا الفهم وهذا الحس.
جرى بينهما هذا الحوار ذات يوم على هامش جلستهما اليومية لحفظ القرآن وتعلم اللغة العربية، بعد أن وجد الشيخ فتاه يبكى.
البخارى: ما أصابك؟.
نظمى: سعد يا مولانا.
البخارى: رحمة الله على الزعيم الجليل، ماذا ذكرك به؟.
نظمى: ليس سعد هذا.. بل الآخر.
البخارى: ومن ذاك يرحمك الله؟.
نظمى: هو كبش كنا نربيه فى البيت.. غافلونى وذبحوه للعيد ولما بكيت سخروا منى ولم يكفهم أن يأكلوا منه، فأرادونى، وألحوا، أن آكل منه مثلهم.. فأبيت.
البخارى: ولماذا يسخرون منك.. لقد بكيت من أحببت؟.
نظمى: أليس كذلك؟.. وقالوا حرام ألا تأكل مما أحل الله.
البخارى: ليس حرامًا أن تحب شيئًا خلقه الله.
نظمى: وقالوا أتحب خروفًا كأنه أخوك؟.
البخارى: الحب يا بنى شىء جميل جليل، ولو كان لشىء تافه ضئيل، ألا يحب الواحد منهم أصصًا من الزهر.. أو حلية من الجواهر؟ لا تثريب عليك فيما أحببت، فليست قيمة الحب فيما نحبه، بل فى حبنا له، وإن لك لقلبًا سخيًا وفؤادًا ذكيًا.
لا يستطيع أن ينكر أحد على نظمى لوقا بلورته لمنهجه وفلسفته التى قادته فى النهاية إلى أن يكون منحازًا للحقيقة بصرف النظر عن المستفيد من هذه الحقيقة، ولا يستطيع أحد أن ينكر أيضًا ما لاقاه بسبب تمسكه برأيه.
لكن لا يستطيع أحد أيضًا أن ينكر تأثير الشيخ البخارى الكبير على نظمى وعلى تكوينه وصياغته لمواقفه.
وتخيل لو أن الفتى لم يقابل الشيخ من الأساس ولم يحفظ على يديه القرآن، ولم يتعرف منه على سير رجالات الإسلام.. هل كان يمكن أن يكتب ما كتب.. هل يمكن أن يأخذ ما أخذ من مواقف؟.
أعتقد أن أشياء كثيرة فى حياة نظمى لوقا كانت ستتغير تمامًا.
وهو ما يجعلنا نفتح المنطقة الشائكة فى حياته.
تلك المنطقة التى بدأت بكتابه «محمد الرسالة والرسول».
وانتهت بمشهد حجب الرحمة عنه برفض الصلاة عليه.