رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى الذكرى الستين لتجليس البابا كيرلس السادس


فى 10 مايو 2019 تحل الذكرى الستون «1959 - 2019» على جلوس أيقونة المصريين المقدسة البابا كيرلس السادس البطريرك 116، على كرسى القديس مرقس- كرسى الإسكندرية- طبقًا للتقاليد العريقة للكنيسة القبطية.

فى صباح 27 يوليو 1927 توجه الشاب عازر يوسف عطا إلى دير البراموس بوادى النطرون وكان يبلغ من العمر 25 عامًا. وبعد أن اطمأن شيوخ الدير على قوة عزيمته فى تحمل مطالب الحياة الرهبانية من صبر وجلد ونُسك حقيقى وصوم وصمت وطاعة وزهد فى المناصب، زكوه جميعًا ليكون راهبًا بينهم، فتمت رهبنته فى 25 فبراير 1928 وتمت طقوس رهبنته ودعوا اسمه «مينا البراموسى»، إذ كان هذا اليوم يوافق تذكار استشهاد الراهب «مينا» بصعيد مصر. ومنذ ذلك الوقت وضع لنفسه قانونًا التزم به طوال حياته وهو «أن يحب الكل، وهو بعيد عن الكل».
كان بجبل القلمون بالفيوم دير باسم الأنبا صموئيل- يرجع تاريخه إلى العصور الأولى- ثم طوى هذا الدير فى طى النسيان إلى نحو منتصف القرن العشرين، وأراد الأنبا أثناسيوس مطران بنى سويف أن يعيد تعميره، فقصد إلى الأنبا يوساب مطران جرجا، وكان فى ذلك الوقت «قائم قام بطريرك» وأطلعه على رغبته. واقترح وضعه تحت رئاسة الراهب القس مينا المتوحد، فوافقه أنبا يوساب على طلبه وعلى ذلك قصد الناسك إلى الدير ووجده فقيرًا لا أوقاف له وبه عدد ضئيل من الرهبان، فبدأ بتعميره، وأقبل إليه عدد من الشباب الجامعى للرهبنة تحت رئاسة الراهب القمص مينا المتوحد، وفى عام 1948 توجه الشاب سعد عزيز المحامى «فيما بعد الأنبا صموئيل أسقف الخدمات العامة والاجتماعية، والذى استُشهد فى حادث المنصة فى أكتوبر 1981» وبعده بشهرين توجه الصيدلى يوسف إسكندر يوسف، والذى ترهبن باسم الراهب متى الصموئيلى «فيما بعد القمص متى المسكين»، وكانت جميع مراسلات الدير باسم «القمص مينا البراموسى المتوحد»، وبعد أن اطمأن على دير الأنبا صموئيل توجه إلى السكن فى طاحونة الهواء بمصر القديمة بغرض التوحد، متمتعًا بحياة نسكية حقيقية متفرغًا للعبادة الكاملة.
وتمر الأيام ويشاء الله أن يختار الراهب المتوحد مينا البراموسى ليجلس على الكرسى المرقسى فى 10 مايو 1959، فكان يومًا ذا رنين خاص، فقد أُذيعت صلوات السيامة من محطات الإذاعة مباشرة أثناء تأديتها «لم يكن التليفزيون قد أُدخل بعد فى مصر». لقد كانت سيامته حدثًا جليلًا، تهللت له قلوب المصريين، إذ كانت رسامة قانونية بعد العديد من المخالفات التى حدثت منذ ديسمبر 1928 عند تنصيب البابا يؤانس 19 البطريرك 113. وحين علم الشعب كله بأن البابا الجديد اسمه «كيرلس» كتب عباس محمود العقاد مقالًا فى جريدة الأهرام، قال فيه: «إن اسم كيرلس ذو رنين خاص فى تاريخ الكنيسة القبطية: فـ«كيرلس الأول» عمود الدين، والثانى مشرّع حكيم، والثالث مُرشد يقظ، والرابع أبوالإصلاح، والخامس زعيم روحى قومى من الطراز الممتاز». بدأ عمله البابوى بإعادة إحياء مدينة القديس مينا الأثرية بمريوط، والتى يعود تاريخها إلى القرن الرابع الميلادى والتى كانت- حتى القرن التاسع الميلادى- محجًا مسيحيًا عالميًا، فكشف بذلك عن صفحة مجيدة فى تاريخ كنيسة الإسكندرية تؤيدها الآثار، فبادر بوضع حجر أساس دير مارمينا بمنطقة مريوط فى 27 نوفمبر 1959- وقد حضر كاتب هذا المقال تلك المناسبة التاريخية، وهو يبلغ من العمر 9 سنوات- وأسند البابا كيرلس السادس إلى خبير رسم الخط الهيروغليفى والرسم الفرعونى بالمتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية الأستاذ بديع عبدالملك «1908- 1979» مسئولية كتابة اللوحة التذكارية لحجر أساس الدير باللغة العربية، وأيضًا كتابة اسم القديس «مينا» باللغة القبطية على المنارة الشاهقة التى تعلو كنيسة الدير الحديث، والتى مازالت قائمة بشموخ تشهد على روعة الإبداع فى الكتابة وحُسن التنسيق، وعندما أيقن أن كنائس إفريقيا ستلتفت نحو كنيسة الإسكندرية بدأ بإنشاء كاتدرائية كبرى تتفق ومركز مصر المرموق فى العصر الحديث، وحضر حفل وضع حجر أساسها الرئيس جمال عبدالناصر فى يوم السبت 24 يوليو 1965، ثم فى يوم الثلاثاء 25 يونيو 1968 قام الرئيس جمال عبدالناصر بافتتاحها فى حضور بطاركة وجميع ممثلى العالم، فى مشهد رائع يليق بمكانة مصر ومكانة كنيسة الإسكندرية بين بقية كنائس العالم.
البابا كيرلس السادس البطريرك 116هو أول بطريرك قبطى منذ عام 1928 تتم إقامته طبقًا للقوانين الكنسية السليمة، والتى استقرت فى الكنيسة منذ القرن الرابع الميلادى- مع قرارات مجمع نيقية المسكونى عام 325م- إذ إن «قائم قام البطريرك» فى ذلك الوقت، عام 1959، وهو الأنبا أثناسيوس مطران كرسى بنى سويف والبهنسا- كان مدققًا فى الالتزام بقوانين الكنيسة وكان حازمًا وكان واعيًا. فحل السلام والاستقرار على الكنيسة والوطن أيضًا. البابا كيرلس كان كل همه هو تحصين شعبه بالصلاة بعيدًا عن الفلسفات الهدامة، وأن يوطد العلاقة بين أبناء الشعب الواحد، فكم كانت هناك علاقات متميزة بينه وبين جميع رجال الطوائف المسيحية الأخرى ورجال الدين الإسلامى، فكانت حياة التقوى حقيقية، وكانت المحبة سائدة بين جميع المصريين. كما كان يتميز بالتواضع الشديد فى مأكله وملبسه وتعاملاته مع أولاده، وكان يحرص على أن يقيم الصلوات اليومية فى الخامسة صباحًا ثم فى الخامسة مساءً، كان دائمًا يردد على مسامعنا عبارته الشيقة «دارى على شمعتك تنور»، فكثير من الأعمال العظيمة التى قام بها كانت فى الخفاء، ربطته بالرئيس عبدالناصر علاقة محبة شديدة وحقيقية، كما كان يعتز جدًا بالدكتور كمال رمزى أستينو- أشهر وزير تموين عرفته مصر- والذى كان شاهدًا على القرعة الهيكلية الحقيقية فى أبريل 1959- بدون تزوير- التى أتت بالراهب مينا البراموسى المتوحد. كما أنه عاش قريبًا جدًا من فقراء مصر، بل وأكاد أقول إنه عاش بينهم، فكان يوزع عليهم طعامه اليومى- وكان طعامًا بسيطًا للغاية.
عاش حياته مسنودًا بنعمة الله. فى 9 مارس 1971 رحل البابا العظيم، وكان الوداع أسطوريًا من الأقباط والمسلمين والمسئولين، وتشهد جريدة «الأهرام» بأنها يوميًا كانت تفتح صفحات تعازى فى البابا استمرت أربعين يومًا حتى إن كثيرًا من مدارس القطر قدمت تعازيها، إنه فى الحقيقة صفحة مشرقة من تاريخ الوطن والكنيسة أيضًا. وهكذا كمُلت أيام الرحلة المقدسة التى امتدت من 2 أغسطس 1902 حتى يوم الثلاثاء 9 مارس 1971، إن سجله الرائع نقدمه لأبناء مصر فى ذكراه العطرة، وفاء لصاحب الذكرى وتكريمًا لصفحة ناصعة من تاريخ مصر، وبعد رحيله المحزن عادت المخالفات الكنسية مرة أخرى، ما سبب للكنيسة مشاكل لا حصر لها!!.