رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تحولات شهر رمضان



جميل أن تحتفل بضيف كريم يحل عليك مرة واحدة كل عام، ولكن من غير المعقول أن يتحول الحفل إلى إساءة للضيف المحتفى به، أو أن تجد ضيفك فى النهاية مستاء ومتضررًا من أسلوب الاحتفال به، لأنه بالفعل أسلوب غير لائق بالمرة.
الضيف الكريم هنا هو رمضان.. شهر الصوم والعبادة، الذى تحول بقدرة قادر إلى شهر البرامج التليفزيونية الخالية من المضمون، وسيل من الإعلانات وموجة الشحاتة والتبرعات التى يدخل بعضها تحت بند النصب والاحتيال باسم الفقراء والمرضى وأبناء السبيل.
لا أحب المواعظ.. ولا أعتقد أننى مؤهل لاعتلاء منابرها، لكننى بمنطق بسيط أتساءل: كم أخذنا من الوقت «شهورًا أو سنوات أو عقودًا» حتى شوهنا هذه المناسبة الروحانية بهذه الصورة وأفرغناها من معناها وقيمتها الحقيقية، وبشكل يصعب تصحيحه بين يوم وليلة؟، كيف تحول الشهر الذى نختصر فيه وجبة طعام، إلى مناسبة تستنزف فيها ميزانيات البيوت على الطعام والشراب، تدخل السوبر ماركت أو حتى محلات البقالة الكبرى، فتشعر بأنك فى سباق محموم لشراء الطعام والياميش، فلا تعرف هل نحن على أبواب مجاعة؟ كيف يمكن أن تتوقف أكثر من نصف اليوم عن الطعام والشراب، لكنك تنفق أضعاف ما تنفقه فى الأشهر العادية؟.
أغلب الناس لا يتوقف عن الحديث عن غلاء الأسعار، ورغم هذا تصاب بصدمة عندما تعرف أننا استهلكنا منذ أيام فى شم النسيم، فسيخًا ورنجة بقيمة مليار جنيه، ولا نعرف كم ستزيد فاتورة استهلاكنا من الطعام والياميش عن هذا الرقم؟.
نحن إذن ننفق المليارات على أشياء لا نحتاجها فعلًا، نم نبدأ فى الشكوى ولا نتوقف، أليس هناك حكيم قادر على إيقاظ الملايين من هذه الحالة؟!.
جميل أن تحتفل برمضان لأنه شهر الصوم، وهو أحد الأركان الأساسية للإسلام، لكن هل نحتفل به بالتبذير ونحن نعلم أن المبذرين إخوان للشياطين، هل نحتفل به بالسهر أمام مسلسلات تمتد حتى مطلع الفجر، ويا ليتها مسلسلات ذات طابع روحانى أو حتى مضمون راقٍ، لكن أغلبها مع الأسف عن الجريمة والمخدرات والعلاقات غير المشروعة.. رغم أن هناك حقيقة واضحة وضوح الشمس وهى أنك لن تخسر شيئًا إذا لم تتابعها، بل ستكسب عقلك ووقتك وستخفض بالطبع من فاتورة الكهرباء. هل من المنطقى أن تكون تراويحنا بعد الإفطار مع برامج تليفزيونية هزلية، تكرس القدوة المشوهة فى عيون أبنائنا، فتجعلهم يعتقدون أن الحكمة لا تؤخذ إلا من أفواه نجوم الكرة والفن والراقصات الشهيرات، وأنا أحترم الفن والرياضة عمومًا لكن من قال إن هؤلاء- فقط - هم الذين يجب أن نجرى معهم الحوارات التى يتحدثون فيها عن زيجاتهم وطلاقهم وعلاقاتهم الخاصة، وفلسفتهم فى الحياة إذا كانت لهم فلسفة أو حكمة.
أما عن سباق برامج المقالب السخيفة فحدث ولا حرج، فعلينا أن نرتدى ثوب البلاهة، ونعتقد أن هؤلاء النجوم الذين يستضيفهم نجم واحد كل عام، ليوقعهم فى مقالب لا يعرفون أنهم وقعوا فى الفخ، وعلىَّ أن أصدق – بكل عبط- أن هؤلاء الممثلين البارعين لا يمثلون علينا الغضب بسبب المقلب، الذى تقاضوا من أجله مبالغ خيالية، هذا غير تكاليف السفر بالطائرات والإقامة فى الفنادق الفاخرة، ولماذا لا أصدق وأنا أرتدى جلباب العبط كل عام، وأسمح لهذا الفنان- الذى أحبه كممثل كوميدى وأرفضه كمبتذل تليفزيونى- أن يضحك علىَّ.
ومادام الصوم يحضنا على الصبر فعلينا أن نصبر صبرًا جميلًا طوال أيام الشهر الفضيل على مسلسل التسول الأكبر من خلال إعلانات جمع التبرعات من أجل مرضى السرطان والقلب ومن أجل فقراء الصعيد والقرى النائية، والتى ينجح القائمون عليها فى جمع مليارات، بلا حسيب أو رقيب يعرف كم تم جمعه بالتحديد وكيف تم إنفاق هذه التبرعات، وكم تبقى من هذه المليارات من أجل المرضى والمساكين والمحتاجين، بعد أن أخذ القائمون على هذه الجمعيات والمستشفيات «وبعضهم من عائلة واحدة كما نعلم جميعا» من مرتبات ومكافآت تحولهم إلى مليونيرات.
الإنفاق فى سبيل الله جهاد عظيم نسعى إليه ونتمنى جزاءه وثوابه من الله، ولكن كيف تحول بعض الإنفاق فى الشهر الكريم لصالح القائمين على بعض الجمعيات والهيئات، من يرضى بهذا وكيف نقبل أن تتحول قروش الفقراء الطيبين إلى وسيلة لإثراء من لا يستحقون؟!.
باختصار.. هل يستطيع أحدكم أن يجيبنى كيف حولنا شهر الصوم والطاعة والعبادة، إلى شهر نهدر فيه المليارات على أطعمة ووسائل تسلية ومطاعم ومقاهٍ تسهر حتى الفجر، وعلى مسلسلات وبرامج تليفزيونية بلا قيمة، وعلى حملات تبرعات بعضها – ولا أقول كلها – يمكن وصفها بأنها سيئة السمعة؟.. من الممكن أن أقبل كل هذا على شهور السنة الأخرى، من باب احترام رأى الناس، وما يقررونه لحياتهم، ولكنى لا أستطيع قبوله فى هذا الشهر الفضيل.