رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف احتفل المصريون بشهر رمضان من القرن الثالث الهجري حتى العصر الحديث؟

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

على مدار العصور تنوعت أشكال ومظاهر استقبال شهر رمضان الكريم والاحتفال بنهاراته ولياليه، وتركت كل فترة تاريخية بصمتها الخاصة المميزة على هذه الاحتفالات، لتضاف إلى جماع المظاهر الرمضانية التي شغلت أبوابًا عديدة من التاريخ الاجتماعي المصري، وأسهمت في رسم صورة مصر والمصريين خلال هذا الشهر الخاص.

في القرن الثالث الهجري اهتم "أحمد بن طولون"، بأمر العمال خاصة في شهر رمضان، فقد خرج مرة لزيارة مسجده وقت بنائه، فرأى الصناع يشتغلون إلى وقت الغروب، فقال متى يشتري هؤلاء الضعفاء إفطارًا لعيالهم، اصرفوهم العصر فأصبحت سنة من ذلك الوقت، فلما فرغ رمضان قيل له: لقد انقضى رمضان فيعودون إلى عاداتهم فقال: "قد بلغني دعاؤهم وقد بركت به وليس هذا مما يوفر العمل"، ومنذ ذلك التاريخ دأبت الحكومات المصرية على ترتيب أوقات العمل بما يتناسب مع خصوصية هذا الشهر ويسهل على الصائمين أمورهم.

ويذكر "ابن زولاق" أن محمد طغج الإخشيدي كان يرسل النفقات في أول رمضان لعمارة المساجد وتزيينها مثل ما كان يفعله أحمد بن طولون من قبل.

ويشير المؤرخ "ابن المأمون"، إلى أن العادة قد جرت في الأيام الأفضلية بإغلاق جميع قاعات الخمارين بالقاهرة في آخر جمادي الأخرة من كل سنة وأن يحظر بيع الخمر، ثم رأى الوزي المأمون لما ولى الوزارة بعد الأفضل بن الوزير بدر الجمالي، أمير الجيوش "458 – 515هـ 1016 – 1121م"، رأى أن يكون ذلك في سائر الدولة، فكتب به أمرا إلى جميع ولاة الأعمال بأن ينادي على الناس: " أن من تعرض لبيع شيء من المسكرات أو شرائها سرًا أو جهرًا فقد عرض نفسه لتلفها وبرثت الذمة من هلاكها".

وقد اهتمت الدولة الفاطمية بهذا الشهر بشكل خاص، فقد كان مناسبة لإظهار إغداق الفاطميين على المصريين بغية ترغيبهم في مذهبهم، فجاءت احتفالاتهم به غير مسبوقة وعلى غير مثال من الدول السابقة عليها، بداية كانت تحذر بيع المسكرات ابتداء من شهر رجب وتعاقب من يبيعها أو يشتريها سرا أو جهرًا وخصته بحفلات يعد بعضها تمهيدًا لحلوله والبعض لإعلان رؤية هلاله، ووهي حفلات غنية بمظاهر العظمة شاملة لأنواع البر والصدقات مما يرفه عن الفقير، ويدخل السرور عليه.

فإذا أقبل شهر رمضان عهد إلى قضاة مصر بالطواف قبل حلوله بثلاثة أيام بالمساجد والمشاهد في القاهرة ومصر وذلك لتفقد ما تم إجراءه فيها من إصلاح وفرش وتعليق المسارج والقناديل.

وكان يوقد به في ليالي المواسم والأعياد أكثر من 700 قنديل، وكان المسجد يفرش بعشر طبقات من الحصير الملون بعضها فوق بعض، وما إن انتهى شهر رمضان حتى تعاد تلك الثريا والقناديل والمشكاوات إلى مكان أعد لحفظها فيه داخل المسجد، كما أن الدولة في ذلك الوقت كانت تخصص مبلغًا من المال لشراء البخور الهندي والكافور والمسك الذي يصرف لتلك المساجد في شهر الصوم.

وفي العصر المملوكي كان السلطان يستهل الشهر بالجلوس في الميدان تحت القلعة ويتقدم إليه الخليفة والقضاة الأربعة بالتهنئة، ثم يستعرض في أحمال الدقيق والخبز والسكر، والغنم والبقر المخصصة لصداقات رمضان يعرضها عليه المحتسب بعد أن يكون استعرضها في أنحاء القاهرة تتقدمها الموسيقى فينعم على المحتسب وعلى كبار الموظفين.

وكان المحتسب يحاسب المفطر بعد أن يسأله عن سبب إفطاره لاحتمال أن يكون مريضًا أو مسارفًا، فإن أثبت شيئا مما يبيح له الإفطار عذره للهجر به، وإن كان مفطرا لغير سبب أدبه، عدا ما يلاقيه من استهزاء الأطفال والمناداة عليه" يا فاطر يا خاسر دينك".

وعن أيام الحملة الفرنسية على مصر، يقول الجبرتي: " إن ساري عسكر الفرنسيين أمر بالمناداة في أول رمضان بأن نصارى البلد يمشون على عاداتهم مع المسلمين ولا يتجاهرون بالأكل والشرب في الأسواق، ولا يشربون الدخان ولا شيئًا من ذلك بمرأى منهم، كل ذلك لاستجلاب خواطر الرعية".

أما عن مظاهر التعامل الإجتماعي مع أيام وليالي شهر رمضان في الدلوة العثمانية، فيصفها الرحالة الإنجليزي "إدوار لين" فيقول: " لم يعد المرء يشاهد في رمضان المارة يمسكون بشبكهم في الشوارع كما كان يشاهد في أوقات أخرى فيراهم بدلا من ذلك إلى ما قبل الغروب، يحملون عصا أو مسبحة ويجاملهم المسيحيون في عدم التدخين علانية، وتبدو الشوارع كئيبة في الصباح، إذ إن كثيرا من الحوانيت يغلق غير أنها تفتح جميعًا في العصر وتزدحم كالمعتاد، وبعض الصائمين ينحرف مزاجه قليلا في النهار وفي الليل بعد الإفطار يبشون ويمرحون وعادة كبار الأتراك بالقاهرة وكثيرين غيرهم أن يقصدوا مسجد الإمام الحسين عصر كل يوم من رمضان للصلاة وفي هذا الوقت يعرض بعض التجار الأتراك الذين يسمون تحفجية على الناس في ساحة الميضأ’ مجموعة من البضائع ذات ذوق وترف يلائمان رغبات مواطنيهم وغيرهم".

وفي رمضان بعد الإفطار يتدفق الناس إلى الشوارع ويتحول الليل إلى نهار، ويرتاد العامة المقاهي ليستمعوا إلى المنشدين ورواة السير الشعبية، ويعقد دراويش الصوفية حلقات الذكر وختمة القرآن في منازل شيوخهم كل ليلة.

أما في العصر الحديث ففقد القرن التاسع عشر الميلادي، كانت دوائر الحكومة تستنجز الأعمال الجاري تشغيلها لصرف قيمتها قبل حلول شهر رمضان، وكانت دواوين الحكومة تعطل فيه عدا ديواني الخارجية والضبطية والجمرك، ليتفرغ المستخدمون فيه للعبادة بشرط إنجاز جميه ما لديهم من مواد متأخرة، وتصدر الأوامر بذلك منذ منتصف شهر شعبان، وعلى أن لا يعطل من الدواوين إلا من أنجز جميع أعماله، وقد أصدر محافظ القاهرة أمرا في منتصف شعبان 1273هـ 1856م بإقامة زينة ومهرجان مرتين في شهر رمضان.

وفي عهد المللك فاروق يطلب من الحكومة كل عام أن يكون الاحتفال برمضان بالغا اقصى حدوده، ويصدر تعليمات محدودة بمنع بيع المسكرات والمشروبات الروحية في المحلات العامة الميادين والأحياء الكبرى.

وفي أحد حواراته أشار نجيب محفوظ إلى أن المنازل وقت طفولته بميدان القاضي كانت تفتح أحوائها للناس وكانت تأتي بالمنشدين الذين كانوا يقيمون ما كان يسمى يالتوليد النبوي، وهو مثل حلقات الذكر تنشد فيه قصائد المديح في النبى وكانت هذه المنازل تتبارى فيمن يأتي به للإنشاد، وكان الناس ينتقلون بين هذه البيوت للاستماع بأصوات المنشدين.