رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شم النسيم.. عيد مصري قديم


السنة المصرية تعد أقدم السنين التى استُعملت فى العالم أجمع ولم يكن عند الأمم علم يمكنهم به معرفة ضبط الوقت، ولكن أجدادنا المصريين كانوا أول من تعلم وعلم. فنبغ فيهم الحكيم «توت» أو «تحوت» ويُرمز له بالطائر المقدس أبومنجل «إيبس» وكان يعتبر إلهًا للعلم والحكمة.
شم النسيم يوافق موعد احتفال المصريين بأول فصل الربيع، وقد أطلقوا عليه بالهيروغليفية اسم «شمو» Shemw وهو أحد فصول السنة المصرية القديمة – فصل الحصاد – الذى يشمل أربعة أشهر «من منتصف فبراير – حتى منتصف يونيو». ثم حُرّف الاسم إلى «شم»، وأضيفت إليه كلمة «النسيم» حتى تصبح علمًا عليه. وقد رُمز لفصل الحصاد «شمو» بالعلامة الهيروغليفية «عنخ»، أى أنه فصل الحياة. وهو يأتى فى اليوم التالى مباشرة لعيد القيامة عند الأقباط، والذى يحدده حساب الأُبقْطِى Epact الذى استقرت قواعده المعمول بها منذ القرن الثالث الميلادى وبالتحديد فى عصر البطريرك الإسكندرى البابا ديمتريوس الكرّام «١٨٨ – ٢٣٠» البطريرك ١٢، وبالتالى فإنه لا يمكن للمعهد القومى للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية أن يحدد موعد عيد شم النسيم!! وبموجب حساب الأُبقْطِى يتم تحديد عيد القيامة المجيد «الذى يقع شم النسيم فى اليوم التالى له مباشرة» بأنه الأحد التالى للقمر الكامل الذى يلى الاعتدال الربيعى مباشرة. وقد أخذ الغربيون حساب الأبقطى وطبقوه على التقويم الرومانى اليوليانى، فاتفقت الأعياد المسيحية عند جميع المسيحيين، كما كان يحددها التقويم القبطى حتى سنة ١٥٨٢م حين ضبط الغربيون تقويمهم بالتعديل الجريجورى الذى أجراه بابا روما جريجوريوس الثالث عشر. وكان نتيجة تخلى الغربيين عن التقويم القبطى أن عيد القيامة عند الغربيين- فى بعض السنوات - يخالف القاعدة التى وضعها مجمع نيقية «انعقد عام ٣٢٥م» والتى تتفق مع التقويم القبطى فى أن عيد القيامة يقع فى الأحد الأول التالى للفصح اليهودى، ومن ثم لا يصح أن يتم الاحتفال به قبل موعد الفصح اليهودى، لأنه يخالف الأحداث التى وردت فى الكتاب المقدس، وهذا ما يحدث فى عيد القيامة عند الغربيين فى بعض السنوات.
وكان المصريون القدماء يحتفلون بعيد الربيع بنفس الصورة التى يحتفل بها المصريون الآن فى يوم شم النسيم، فكان الاحتفال يشترك فيه الفرعون والوزراء والعظماء، فهو العيد الذى تُبعث فيه الحياة ويتجدد النبات وينشط الحيوان فهو بمثابة «الخلق الجديد» فى الطبيعة. وكانوا يفرحون بحلوله ويجعلون منه يوم راحة، ففيه تزدهر الخضرة وتتفتح الزهور ويخرج الناس أفواجًا وجماعات إلى الحدائق والحقول للترويح عن أنفسهم وهم فى نشوة من الفرح والسرور، ويقضون يومهم فى أحضان الطبيعة الباسمة، تاركين وراءهم متاعب الحياة وهمومها.
ومن مظاهر الاحتفال بالعيد فى مصر القديمة: أكل البيض والسمك المملح «الفسيخ» – إذ إن الملح يحفظ الشىء من الفساد أى يبقيه حيًا – والبصل والخس ولحم الأوز والبط المشوى. والبيض عند الفلاسفة هو أصل الخلق، ومن البيضة «التى تشبه القبر المغلق» يخرج الكتكوت إلى «الحياة»، لذلك اتخذت المسيحية البيضة رمزًا للحياة. فاعتاد المسيحيون أن يضعوا على مائدة الطعام أثناء وجبة الإفطار – فى عيدى القيامة وشم النسيم - البيض الملون ويزينونه بأشكال مختلفة، كما اعتاد بعض الناس أن يعلقوا حِزّم البصل على أبواب المنازل. كما ذكر هيرودوت- المؤرخ اليونانى – الذى زار مصر نحو القرن الخامس قبل الميلاد: «إن المصريين كانوا يأكلون السمك ويجففون بعضه فى الشمس ويأكلونه نيئًا ويحفظون البعض الآخر فى الملح».
يعتبر البصل من أهم الخضر التى انتشرت زراعتها فى مصر، وقد سجلت صوره على موائد القرابين منذ الأسرة الخامسة، وكان أحيانًا يُربط حزمًا ويُقدم قربانًا للآلهة. كما أنه يوجد العديد من صور البصل منقوشة على جدران القبور وبها يلاحظ بعض الكهنة وهم يمسكونه فى أيديهم، كما وُجدت رسوم أخرى لبعض مذابح المعابد القديمة وهى مغطاة به. أيضًا عُثر على البصل فى يد إحدى المومياوات وفى لفائف أكفان الموتى منذ الأسرة الثالثة عشرة، كما وُجد قشر البصل على عين المتوفى وكان يوضع على التجويف الجوفى والصدرى والأذن. كما ورد ذكر البصل فى النقوش الهيروغليفية باسم «بدجر» أو «بصر»، وإن كان بعض علماء الآثار ينطقونها «بصل» بلفظها الحالى. كذلك ورد ذكره فى كثير من الكتابات القديمة والكتب المقدسة. ويذكر هيرودوت أن العمال الذين قاموا ببناء الهرم الأكبر «هرم الملك خوفو» بالجيزة استهلكوا كميات كبيرة من البصل ضمن طعامهم اليومى. وهذا ما نشاهده اليوم فى مواقع البناء عند فترة الغداء عندما يقوم العمال بتناول البصل الأخضر بجانب الجبنة البيضاء والخبز الأسمر. وفى عيد «نتريت»، الذى هو أحد الأعياد الزراعية عند المصريين القدماء فى ٢٥ كيهك «٣ يناير»، كانوا يعلقون حزمًا من البصل فى هيئة عقود حول أعناقهم تبركًا به ثم يطوفون حول معبد الإله «سكر» بمنف يقدمون له القرابين.
وكان المصريون القدماء يضعون البصل قرب أنف المريض فى بداية الربيع وعند ولادة الطفل، وما زال هذا التقليد متبعًا إلى يومنا هذا فى شم النسيم عندما يستقبل الناس يوم العيد بوضع البصل بالقرب من الأنف، أو وضعه تحت وسائدهم أو فوق أسرة نومهم، اعتقادًا بأنه بهذا التقليد يقضى الشخص العام كله فى همة ونشاط ولا يزوره روح الكسل ولا يمرض. كما أن هناك فريقًا آخر من الناس يصبون عصير البصل على عتب الباب لاعتقادهم أنه يطرد الأمراض والحسد. ويروى بعض المؤرخين أن اليهود كانوا يأكلون كميات كبيرة من البصل أثناء وجودهم فى مصر، وأنهم حزنوا كثيرًا من أجله عند رحليهم من مصر تحت قيادة موسى النبى. كما أن اليونانيين أعطوا اهتمامًا شديدًا بالبصل حتى إن سقراط – الحكيم اليونانى – أوصى بأكله فى إحدى الحفلات، كما عُثر على حزم من البصل فى بعض قبور دير المدينة بطيبة من عصر الدولة الحديثة «١٥٨٠ – ١٠٨٤ ق.م.»، كما عُثر على البصل فى مقبرة من العصر الرومانى محفوظ بقسم الزراعة القديمة بالمتحف الزراعى بالقاهرة. إن شم النسيم هو العيد الذى أوحت به طبيعة بلادنا الزراعية، عيد بعث الحياة، عيد أول الزمان. فلنحافظ عليه ونوقره ولا نفرط فيه، إنه الميراث الذى ورثناه عن أجدادنا الأولين صناع الحضارة ومعلمى المسكونة بعلومهم المتقدمة وفكرهم المستنير وإنجازاتهم الرائعة والمبهرة.