رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى الطريق إلى أميرة النار

جريدة الدستور

استراحة المتاهات..
هذا هو الاسم الذى أطلقه ماجد على المكان، وارتضاه صاحبه عن اقتناع.. من الداخل حوائط نصفية لحجرات بلا أبواب، ونتيجة للتصميم الحلزونى للممرات وزوايا الجلوس، فإن الناظر لا يتمكن من رؤية الجالسين خلف الموائد المصفوفة، عليه أن يحنى رأسه وجذعه ليرى أولًا قبل أن يدخل.. من الجائز أن إحدى العائلات سبقت إلى هذه الحجرات نصف المكشوفة، حيث ترفع النساء النقاب، وسط اجتماع عائلى غير منظور إلى حد كبير. يُحب «ماجد» و«سعد» هذه الاستراحة كثيرًا، رغم وجود غيرها على الطريق الطويل، حيث الرمال والجبال، وصولًا إلى المدينة التى يعملان بها.. يُفضلان السفر البرىّ على الجوىّ، لتطويل الوقت من عدة ساعات بالطائرة إلى ثلاثة أيام فى البحر وعلى الأرض.. اثنان من المُدرِّسين، يُؤخِّران قليلًا ما ينتظرهما فى هذا البلد، من أجواء تقلَّبت عليهما فى الأعوام الأربعة السابقة، وها هو الخامس على الأبواب.
تأخذهما متاهات الاستراحة، ويظلان يدوران بين الممرَّات، حامليْن خبزهما وأطباقهما الساخنة، بحثًا عن مكان للجلوس فى ذلك العالم الحى المائج.. يطول السعى، ونظراتهما تلفُّ وترتد وتتخدر.. وجوه نساء مصريات وشاميات وهنديات وجنسيات أخرى سكبتها الباصات المرصوصة فى الخارج، تُعبِّئ العيون من كل ذلك ما تستطيع، مؤونة عام دراسى بطوله، وسط سواد النقاب المُنتَظَر، يمكن التجاوز عن وجود أولاد صغار، نيام وأنصاف نيام، وكذلك رجال ثقيلى الجفون.. حالة سارحة، ومظلة من التوهان والدوخة، فى تلك المُكعّبات الناقصة.

«عبدالمنَّان» الهندى، سائق باص المُدرِّسين، تائه أيضًا فى ذلك الجو، لكنه يأكل بشهية واضحة، فى نفس الحيِّز الذى اختاره الصاحبان، لا يدرى أنه يجلس وظهره يحجب نصف وجه قَمَرى، يظهر من فاصل بين جدارين، يتغامز الرفيقان المُضطربان: مِصرية، مصرية بوجه رائق رغم المشوار الطويل.. الله.. «زبيدة ثروت» بالحجاب. لا تسمح الحواجز برؤية وجوه من عائلتها، سوى بنت صغيرة بضفيرتين، تطوف من حولها وتتشعلق، ممسكة بوردتين حمراوين ذابلتين.. البنت نسخة مُصغرة من أمها.. تشفُّ عينا «سعد»، ويقف من مكانه ناظرًا فى اتجاهين، ثم يخطف نظرة ثابتة لثوان معدودة ويجلس مُتنهدًا، يُخبر «ماجد» بالحقيقة البارقة:
«ليس معهما أحد!»
«صحيح؟»
يقومان تاركيْن «عبدالمنّان» غائبًا مع طعامه، ينحرف سعد نحو الوردة الحمراء على الأرض، ينحنى ويُقدّمها للقمر الصغير الباكى، يمسح دموع البنت، ويفوز من الأم بشكرٍ وابتسامة سخيَّة، يستفسر ماجد عن اسم الصغيرة، ويتوقع قبل أن يأتيه رَدّ: هل يا ترى.. نورا، سما؟ وترد أمها بصوت مُمتلئ شجى:
«رُوان.. رُدّى يا رُوان».
«الله، اسمك جميل مثلك يا روان».
تبكى رُوان فى الوقت غير المناسب، شكلها مُتعَب وتطلب النوم، تحملها الأم وتُهدهدها بعصبية، لا مفر، يُومِئ الرفيقان باستئذان، وانسحاب هادئ، يستديران خطوات نحو «عبدالمنان»، وطعامهما الباقى كما هو.. الحركة فى الجوار مَوَّارة بالآتين والذاهبين، لا جديد سوى رأسيْن غابا فى الاسترجاع والمشى فوق اللحظات والثوانى، لحظات يعرفان أنها ستتجمد، وتُستعاد عشرات المرات، للوجه الحميم، والصوت الحانى، سيتذكران: كيف قاما معًا بلا اتفاق على نداءٍ غامض.. صُدفة الوردة التى سقطت على الأرض من اليد الصغيرة.. كل لفتة واختلاجة رمش يُقفل ويُفتح بكسل وإرهاق فاتن.. إيماءتها حين ابتسمتْ مُودّعة.. انصرافها وغيابها فى ممرات السَّداح مداح.
ينهض «عبدالمنان»، بإشارة سريعة، سابقًا نحو المسجد، لم يتكلم كلمة واحدة، يحسدانه على ذلك، ويحسدان كل الهنود هنا.. ذلك الشعب الكبير الموجود فى كل المحال والمؤسسات، هؤلاء الصامتون الذين لا يشاركون أو ينفعلون بأى شىء.. ياااااه.. يتمنَّى الرفيقان أن يصمتا صمتًا أزليًا كالهنود، يُنفذان ما يُطلَب منهما دون زيادة كلمة أو حرف، لكن كيف وهما يغويان تَعَب القلب ولا يهمدان! يُلامِسان الأسلاك المكشوفة مع بعضها، فتنفجر شرارات وتُضىء نجوم بعيدة عن الهنود وسيرتهم.. يتغلب سعد على ريقه الجاف، ويترك الخيط لكلماته الحائمة حول النجمة التى كانت منذ قليل: هذه المِصريّة تُشبه الشَّامِيَّة الشامخة التى تَعقَّبناها طوال العام الفائت، يا ترى أين هى؟ هل ما زالت تذهب كل أربعاء لِمُول «العُثيم» الواسع»؟ تلك السّوريّة أو اللبنانيّة، ذات الوجه المُنور المكشوف، ضمن قليلات جدًا لا يلتزمن بالنقاب، لم تُكلِّمنا أبدًا، ولم تلفت إلينا كأننا بلا لون ولا رائحة، يا تُرى يا عم ماجد يا أبا الأمجاد، لو اخترتَ بينهما؛ هل ستختار المصريّة أم الشاميّة؟ يُقهقه ماجد: لا تقلق، فى كل الأحوال لن أختار الاثنتين! قُم لنُصلِّى..

الماء فى المسجد للوضوء، وأيضًا لغسل كل شىء، يكاد ماجد أن يرى ما يسقط من رأسه ويرحل مع السيل الصغير الجارى فى الأسفل، يزيد من تغطيس دماغه ورجِّه تحت الحنفيّة.. خمسون خاطرًا تأتى وتذهب فى الدقيقة الواحدة.. دَعْ كل الخواطر تحت الماء، ليجرفها إلى البالوعة التى لا تشبع.
يا ماجد ارجع لبلدك ويكفى هذا.
طيب، وعندما تكون هناك فى الصيف، هل تنسى؟
يخنقك الضيق من الزحام، والوجوه الممروضة الشقيّة، والكلام الأبدى عن الغلاء والمعيشة.. تنفخ وتقاتل ذُباب وجهك، مُنتظرًا السفر مرة أخرى لفراغ الشوارع الواسعة، والدنيا الهادئة العامرة، والرائحة الفائحة للبنزين النقى.. الذى قال أحد زملائك عنه مَرّة: والله لولا الملامة نشربه! لا.. ارجعْ، ينتظرك عصافير الخير من الزملاء، الذين يتفنَّنون فى سماع الكلام، ثم نقله، مع البُهارات والتوابل، على أجنحة الولاء وكسب الود.. هل نسيت الزعماء؟ تلاميذك: «محمد الثّارى» الذى ينام على أرض الفصل ويرفع رجليه ويصرخ كعائلة فئران، و«عبدالعزيز الدّحيم» صاحب المقالب، و«فيصل القحطانى» الذى يشتم الجميع، و....
رُج رأسك أكثر، افلقها، استمر فى تكويم ما عندك إلى ما عند سعد، ومع التغيير والتبديل سينتج كائن جديد مصنوع من ثلج، مثل أميرة الثلوج الشهيرة فى قصص الأطفال، والتى تُحب أن تحكى حكاياتها باستمرار للأولاد فى فصلك.. أميرة بيضاء من ثلج.. لا بد أن تظل مُتحكّمة فى قلبها وميْله بإرادة لا تلين، وإلا سيسخن ذلك القلب بالحب ويذوب، فتذوب معه وتتلاشى الأميرة الجميلة.. مسكينة هى مثلك أنت وصاحبك.. عِش يا ماجد هنا، وحافظ على ثباتك وبرودك كما يحافظ الجميع، يعيشون ويعجبهم الحال، وليسوا مثلك يحلمون بالأميرات.. ادعك فروة رأسك بقوة، اجعل الماء يخترقها ويُطفئ جُمجمة اللهيب هذه.. صحيح.. النّار والحَرّ والجحيم.. من أين يأتى الثلج فى هذا البلد؟ لو جاءت أميرة الثلوج إلى هنا ستذوب قدمها مع أول خطوة على هذه الرمال الجهنميّة.. هنا أميرة أخرى من ابتكارك أنت.. أميرة من نار مُوقَدة دوما، وبقلب ذهبى يُغذِّيه الحب اللاهب.. ستعرف كيف تعيش تحت هذه الشمس القادرة، لتُشعل قلوب هؤلاء الناس.. لكنها مسكينة هى الأخرى.. ما إن يبرد قلبها ولو للحظة؛ فإن نارها ستنطفئ وتموت.. آه، فعلًا.. لن تحيا أميرة النار ولا غيرها على هذه الأرض يا عم ماجد.. استرخِ تحت الماء، وأرِحْ رأسك.. استسلم لليد التى تهزك بإصرار.. افتح عينيك الثقيلتين المُستحمتين، لترى ذلك الباكستانى بوجهه المشرق، وقميصه الطويل حتى الرُّكبة: الصلاة يا أخى، لك ربع ساعة تحت الماء.

أنهى سعد صلاته، وقعد هناك جنب المكتبة الصغيرة فى ركن المسجد يتأمل كعوب المصاحف المصفوفة، وما عليها من حروف وأشكال وكلمات عربية تُبيِّن اللغة المُترجَم إليها القرآن.. مصاحف بالإنجليزية والماليزية والإندونيسية والهندية والأوردية.. يلتقط النسخة الهندية ويفتحها مُتعجبًا: لغة أغلبها رسومات وليست حروفًا.. يرى «عبدالمنان» قائمًا يصلى بجوار المنبر.. يُفكر سعد أن يذهب إليه بعد انتهائه، ويطلب منه أن يقرأ من المصحف بهذه اللغة.. سيضيع هذا الخاطر حين تتعلق عيناه بماجد الذى أطال فى صلاته أكثر من اللازم.. تبدأ الإشارات والموجات تروح وتجىء بين هذين الرأسين، إشارات تطورت من رفقة وعِشرة السنوات الأربع إلى لغة خاصة قد تشبه الهندية: أشكال بلا حروف ولا كلمات، ربما بالهمس، بالنفخ، بمط الشفتين، يتفاهمان بكل شىء وأى شىء.. على الجانب الموازى، وفى لحظات الضيق، تتصادم الموجات اللا سلكية، وتتوقف فى المنتصف غير قادرة على المرور والنفاذ.. يصلان إلى درجة الاختناق الكامل من مجرد نظرة عين أحدهما تجاه الآخر، نظرة تقول وتحكى كل ما هو محبوس فى الصدر.. تنسحب الأعين، ومعًا يُغطيان السطح الشفاف الذى يكشف كل شىء، تطلب النفس أن تنغلق قليلًا، تحتبس وتتوارى بعيدًا عن المرآة الراصدة.. ساعات وبعض أيام بطولها لا تجمعهما أُلفة أو حضور مشترك، اثنان فى حالة سَخَط شامل، قطبان متشابهان لمغناطيس واحد، ومن الطبيعى أن يحدث التنافر.. لا يُلحَّان على تجاوز الحالة.. يعرفان أنها دورة وستنتهى.. تنسرب شُحنة التنافر والانضغاط بمرور الوقت، يعود التجاذب حتمًا، لاثنين وحيديْن، يعرفان جيدًا أن السَّخَط بئر مُرّة لا تفنى، وأنّ ماءها الحامض لن يتغير بما فيه من: الظروف، والأحوال، وضباب الأيام الآتية.
تعود الرؤية لعينىّ سعد الغائبتين.. يقوم مستجيبًا لتلويح ماجد عند الباب، ويخرجان من المسجد إلى الاستراحة مرة أخرى.. جاءت وجوه جديدة، ووجوه غادرت.. سارا بخُمود غريب من ممرّ إلى آخر فى قلب المتاهة، غير مأخوذيْن بمَنْ جلس ومَنْ خرج.. فقط تَوقَّفَا قليلًا لمشهد وردتين حمرواين مُنكمشتين على الأرض، ثم واصلا خطواتهما إلى الباص المنتظر فى الخارج.