رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وائل خورشيد يكتب.. الجميلة وفتى القرية

وائل خورشيد
وائل خورشيد

عاش الولد من ريع لسانه، لم يملك أي حرفة في الحياة، رغم أن آباءه وأجداده وأبناء عمومته جميعا كانوا يعملون في حرفة النجارة، إلا أنه منذ نعومة أظافره كان متفردا بذاته.

يوم ولدته أمه خرج للعالم ونظر من حوله لدقائق، لم يصرخ كالجميع، ثم أصدر أصواتا متقطعة، ظن الجميع أن سببها مرضا ما، رآه الطبيب، وابتسم وقال: الغلام صحيح لا يعاني شيئا.

في طفولته كان يسير بين أبناء بلدته مهندما، يلعبون فيجلس جوارهم يتكلم، ثم يخرج فائزا، في مدرسته، لم يتعلم شيئا مما يتعلمون، ولكنه كان ينظر، ويتابع، وينجح، لم يفهم أحدهم السر، حتى كشف أحد معلميه، أن من كثرة ما كان يكتبه، لم يكن أحد يراجع وراءه، فكان ينجح.

في الأسواق عاش الفتى، صاحب الجسد الهزيل، والشعر الناعم، والابتسامة الطيبة. حاول والده أن يعلمه حرفة النجارة، لكن أظافره التي بقيت على نعومتها لم تسمح له بالعمل، الحق أنه لم يكن ناعما، فقط كان مختلفا، كان على يقين بأن الحياة القاسية التي عاشها أقاربه لا يجب أن تكون سببا له لكي يشقى، كان يرى في نفسه شيئا آخر، لم يكن يعرفه، لكنه كان جاثما على صدره، يسأله الخروج.

في المساء كان الفتى يجلس وحيدا على عتبة أمام منزل الأسرة، يدندن، كان صوته سيئا للغاية، ولكن النغمات كانت سليمة، يحب الفن والموسيقى، وكان ثرثارا مقنعا للغاية، من كثرة حديثه المفعم بالكلمات الرنانة، يجبرك على تصديقه واحترامه.

صمت الفتى.. صرخت أمه لوالده، في أحد الأيام، لم تفهم ماذا حدث، ابنها الثرثار الذي كانت تحبه كثيرا، توقف عن هوايته المفضلة، لم يعد لسانه يستطيع أن يضبط الكلمات، لم تعد الحروف كعادتها تنساب من بين لسانه كما كان في السابق، تذكرت الأم يوم ميلاده، كانت تشعر يوم حملته للمرة الأولى أن هذا الولد ليس كشقيقيه الذين ولدا قبله، فحينما صمت نصف ساعة، قبل أن يتمتم رضيعا، وضعت يدها على قلبه، شعرت به حزينا. لكن ما يحزن الفتى؟ تساءلت الأم. كل ما في الأمر أن حوارا كان في العالم الآخر لم ينهه قبل الوصول.

كانت الأم تعرف ابنها من دقات قلبه، وكلما صمت، كان هذا يعني شيئا، صمت مرة حينما مات جده الذي كان يقص عليه الحكايات، ومرة أخرى حينما ردمت الحكومة ترعة القرية لتقيم مشروعا، وكان هو يحب المكوث هناك، والأخيرة حينما حاول والده إجباره على العمل في ورشة الأسرة.

كان الفتى يجلس وحده شاردا، حتى جاء صديقه الذي كان يعاني من صعوبة في نطق الحروف والكلمات، وجلس جواره، وللمرة الأولى ينجح ابن الإسكافي الذي تعجزه الكلمات في هزيمة الفتى، الذي كان يضع يديه على قدميه ورأسه منحنيا، وعينيه شاردتان ناحية اليمين، كان يرفعهما لينظر للصديق ثم يعود لوضعه من جديد.

رغم ما كانوا يظنون، كان حديثا متعدد الأطراف يدور داخل رأس الفتى، كان هذا ما أسكته، لم يكن يتكلم مع البشر، كان يتكلم مع شخوصه، كان يدير العالم داخل رأسه، ولكن ما السر؟ بالطبع فتاة.

قبل أسبوعين، كان الفتى في السوق، رآها هناك، بيضاء، وجهها مستدير، الزي الأسود الذي كانت ترتديه جعل وجهها منيرا كالقمر في الليل، كان تسير بثقة بين المتاجر، مفعمة بالحيوية، بينما كان الفتى يمارس هوايته المعتادة في الحديث، توقف فجأة حينما التقت عيناهما، نظرتها كانت كالسهم، هذا الفتى الذي رأى الحب إهدارا للوقت، صرعته ابتسامتها.

فكر أن يكلمها، فهي صنعته، فاختلق موقفا ما، ووقف جوار بائع خضرٍ كانت تشتري منه، ليبيع لها الطماطم والكلمات، ولكنه فوجئ بلسانه لا يطاوعه، كاد عقله ينفجر من الحروف التي تتدفق، لكن لسانه كان مشلولا، رحلت هي، وبقي الفتى يحاول جمع شتات نفسه. ذهب للطبيب في المساء، حكى له مشكلته، وأنه فقد موهبته فجأة، ضحك الطبيب وقال: إنه الحب يا فتى.

الحب؟ هل ينال الحب من قلب الفتى، ولكن ذلك لم يحدث من قبل، كثيرات كن مغرمات بما ينطق، ومع ذلك لم يتوقف لسانه، لم يدق قلبه، ما الذي حدث، أي فتاة تلك. دع عنك هذا الهراء.. أنت لست أحمق لهذا.. كان يحدث نفسه.

ظل الفتى على حاله، ينظر كل يوم لهذا الجسد الهادئ من الخارج، يقول لا ضير من بعض الصمت. أنت بخير، لم يقتحم قلبك شيئا، أنت بخير.. أنت بخير.. أنت بخير.

الحقيقة أنه لم يكن بخير، وكان أكثر ما يعتصر قلبه، هو أنه كان يشعر أن كلماته لم تنفذ لروح الفتاة، شعر أنها بعيدة المنال، رغم أنها الأكثر من بينهن التي أعجبته، إلا أنه كان حائرا في أمرها.

ذهب إلى السوق، رآها مرة أخرى، كانت الصدمة، حينما التقت عيناهما، إذ فجأة اندفعت الدماء داخله فائرة، حتى كاد عقله ينفجر، استجمع شتات نفسه، تنفس بعمق، وقال لنفسه: اثبت يا فتى، أنت أهل لذا. حدثها، حاول أن يجر أطراف الكلمات من داخل صدره المكتوم، حديث متقطع، كلما ابتسمت كلما عجز هو عن الحديث. حتى ذهبت، ووقف هو مكانه ينظر فقط. رحلت كأنما سمكة جميلة نادرة كان من العسير صيدها، وما أن دخلت الشبكة وأبصرها، حتى قفزت مرة أخرى بعيدا. ظل الفتى ينظر إلى حلمه يرحل بعيدا عنه بينما لا يستطع أن يفعل شيئا.

كان أكثر ما يقلقه أن يشعر بالألم، كان يحاول السيطرة على نفسه، سمع قصص أقرانه وكيف آلمهم الحب، وكان يخشى على قلبه من الحب. أن يموت بطعنة كتلك. لم يكن هناك شيء يستطيع فعله، كان تدفقها داخله أقوى من أن تستطيع أسواره أن تمنعه. حاول أن يستعرض كل عيوبها أمام عقله، لكنه فشل، لأنه فوجئ أن عقله خانه، وقبلها جميعا.

نادت الأم الأب، طلبت منه أن يأخذه ليعرضه على طبيب في القاهرة، سمعت أن هناك مشافي يمكنها أن ترعى مرضى العقول، كما شفي هناك ابن الحاج عويس عامل القطار، الذي كان يعاني من الصرع. ظنت الأم أن عقل الفتى جنّ، فلم تقرأ ما بداخله مثل كل مرة صمت، لم تكن تعرف أن قلبه هو الذي حنّ. عاد الفتى بينما يتحدثان، قال لهما لا داعٍ لما تفكران، عقلي ولساني بخير، لكني أنا الذي لست بخير، لا أعرف ما أصابني، لكن بقلبي مرض.

شهقت الأم وضربت بيدها على صدرها بقوة.. مرض في قلبك يا بني؟ طلبت من الأب أن يذهب به إلى طبيب القرية. توقفي يا أمي.. قال الفتى: أنا أحب.

لحظات صمت جمعت ثلاثتهم، ثم نظرت الأم للأب وابتسما، من هي؟ سألت الأم. هي جميلة، جميلة جدا، ثم توقف من جديد عن الحديث.. وعاد ليقول: لا أعرف من هي. ولكن سأنتظرها من جديد.

عاد الفتى إلى السوق في اليوم التالي، هذه المرة جمع كلماته، حضر كل شيء كما لم يفعل من قبل، طلت من بعيد، هذه المرة تعطلت قدميه قبل لسانه؛ لأنه كان يعرف أنه مقدم على فعل عواقبه غير مأمونة، اقتربت منه، أوقفها، وابتسم، نسى كل ما كان قد حدث نفسه به، لم يفكر سوى في شيء واحد، أن يخبرها كم هي جميلة، تلقت الكلمات وسكتت، تحركت بضعة خطوات، وتوقفت لثوانٍ، ثم استكملت طريقها، ولكن بعد أن أسقطت ورقة صغيرة ونظرت له ثم رحلت.
حمل الفتى الورقة، ثم ابتسم، وضحك، وقفز، ثم بدأ يثرثر، ثرثر كثيرا، حتى توقف كل رواد السوق ونظروا له وضربوا أياديهم كفا على كف. لم يبال الفتى، فالتي أخرجته من محرابه أعادته سيد متوج.