رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأقباط واحتفالهم بيوم «الجمعة العظيمة»


فى البداية أود أن أسجل تقديرى لأسرة تحرير جريدة «الدستور»، التى كلفتنى شخصيًا بتحرير هذا المقال عن كيفية احتفال الأقباط بيوم «الجمعة العظيمة».
فور الانتهاء من الاحتفال بهذا العيد تبدأ ما تُسمى «صلوات الجناز العام»، ويشترك جميع الأقباط فى هذه الصلوات حتى لا ينشغلوا فى أثناء أسبوع الآلام بأى صلوات أخرى غير صلوات آلام السيد المسيح.
تبدأ احتفالات الأقباط بما يُسمى «أسبوع الآلام» بعد انتهاء صلوات «أحد الشعانين» أو «أحد السعف».
وابتداءً من عصر أحد الشعانين- أى ليلة يوم الإثنين- يجتمع الأقباط فى الكنائس فى صلوات تستغرق نحو ٥ ساعات يستمعون فيها إلى نبوءات من العهد القديم وأناجيل العهد الجديد، بالإضافة إلى ألحان خشوعية حزينة، وتوشح أعمدة الكنيسة بالستور السوداء، وتوضع أيقونة السيد المسيح مكللًا بالشوك فى منتصف الكنيسة.
كما أن الكنيسة رتبت أن جميع المصلين يقرأون إنجيل القديس متى كاملًا يوم الثلاثاء، وإنجيل القديس مرقس كاملًا يوم الأربعاء، وإنجيل القديس لوقا كاملًا يوم الخميس، وإنجيل القديس يوحنا كاملًا يوم أحد عيد القيامة.
واعتاد كثير من الأقباط أن يمتنعوا طوال هذا الأسبوع عن تناول أى حلوى، بل طعام بسيط، وبعضهم يكتفى بتناول الـ«دقة» حتى لا تنشغل السيدات فى إعداد الطعام ويتفرغن كاملًا للعبادة، بالإضافة إلى أنه نوع من أنواع التقشف، وأيضًا يمارسون صومًا انقطاعيًا- أى دون طعام وشراب- طبقًا للحالة الصحية للفرد. ثم فى الصباح يجتمعون أيضًا فى الكنائس فى صلوات تستغرق نحو ٥ ساعات.
فى يوم الثلاثاء تقدم الكنيسة للمصلين لحنًا كنسيًا رائعًا باللغة القبطية، وهو بحق «سيمفونية» عذبة وُضعت من أجل تمجيد الجالس على العرش السمائى الذى بيده المُلك والذى ترجمته بالعربية: (كرسيك يا الله إلى دهر الدهر، قضيب الاستقامة هو قضيب مُلكك)، وهو لحن «ملوكى» لأنه خاص بالملك ويستغرق أداؤه ٢٠ دقيقة، ويُعد من أروع الألحان الكنسية الذى جذب بشدة اهتمام الموسيقيين الغربيين.
فى يوم الأربعاء- من أسبوع الآلام هذا- الذى يُسمى «أربعاء أيوب» نسبة لأنه فى هذا اليوم تقرأ الكنيسة على المصلين بعض الأصحاحات من سفر «أيوب النبى»، وكم تحمل من آلام وتجارب، وبعد هذا كله عوضه الرب على كل ما فقده ومات شبعان أيامًا. وقد اعتاد الأقباط فى هذا اليوم تناول أكل الـ«فريك»، وهو تقليد شعبى تسلموه من آبائهم الأولين.
أما فى يوم الخميس الذى يُسمى «خميس العهد» فتحتفل الكنيسة مع كل الشعب بتذكار العشاء الأخير، الذى فيه تناول السيد المسيح العشاء مع تلاميذه الإثنى عشر، وقبل أن يتناول معهم العشاء جلس على الأرض وغسل أرجل تلاميذه، ثم فى العشاء أخبرهم السيد المسيح أن واحدًا من تلاميذه سوف يسلمه لليهود تمهيدًا لصلبه. وكان هذا التلميذ يُدعى «يهوذا الأسخريوطى» وقد سلم معلمه لجماعة اليهود عن طريق قبلة غاشة.
ومن هنا اعتاد الأقباط فى هذا اليوم أن يمتنعوا- بداخل الكنيسة- عن المصافحة إنكارًا للقبلة الغاشة التى قام به يهوذا نحو معلمه السيد المسيح.
كما أن الكنيسة رتبت فى هذا اليوم قبل البدء فى الصلوات أن يجلس الكهنة على الأرض، ويغسلوا أرجل الشعب كبارًا وصغارًا مع رش السيدات بالماء، وأنا شخصيًا قام البابا كيرلس السادس، البطريرك ١١٦، بغسل قدمى بدير مار مينا بمريوط، والبابا شنودة الثالث البطريرك ١١٧ قام بغسل قدمى- عدة مرات- بدير الأنبا بيشوى بوادى النطرون.
وهذا اليوم يوافق عيد الفصح عند اليهود، الذى فيه احتفل السيد المسيح بالفصح مع تلاميذه، ومن هنا حدد مجمع نيقية المسكونى المنعقد عام ٣٢٥م بضرورة الاحتفال بعيد القيامة فى يوم الأحد التالى للفصح اليهودى، وهذا متفق مع أحداث الصلب والقيامة، كما وردت فى الكتاب المقدس. لكن للأسف الشديد فقد خالفت الكنيسة الغربية هذه القاعدة، وصاروا يحتفلون بعيد القيامة قبل الفصح، كما حدث فى هذا العام!! وفى بعض الأحيان يحتفلون بعيد القيامة قبل الفصح بأسبوعين وأحيانًا أخرى ثلاثة!! وللأسف ظهرت بعض الأصوات غير العارفة بقوانين الكنيسة وتقاليدها وروح الكتاب المقدس، التى تقترح تثبيت عيد القيامة فى الأسبوع الثانى أو الثالث من شهر أبريل، وهذه آراء مرفوضة، بل ويعملون على هدم عقيدة الكنيسة القبطية والكنائس الشرقية كلها، بينما فى مجمع نيقية قام المجمع بإسناد مسئولية تحديد موعد عيد القيامة لبابا الإسكندرية، وذلك عندما كان بابوات الكرسى السكندرى لهم مكانة متقدمة فى العلم والمعرفة والروحانية بين رؤساء الكنائس الأخرى.
أما أحداث يوم الجمعة العظيمة فتبدأ من يوم الخميس ليلًا وتُسمى «ليلة الجمعة» وفيها يستمع المصلون لنبوات العهد القديم، ثم الأحداث التى وردت فى العهد الجديد من الأناجيل الأربعة للبشيرين القديس متى والقديس مرقس، والقديس لوقا والقديس يوحنا، مع قراءات لبعض عظات آباء الكنيسة الأولين أمثال القديس أثناسيوس الرسولى والقديس الأنبا شنودة رئيس رهبنة المتوحدين والقديس يوحنا ذهبى الفم، والصلوات فى ليلة الجمعة تستغرق أكثر من ٧ ساعات.
أما صباح الجمعة فيبادر الشعب إلى الكنيسة منذ الصباح الباكر نحو السابعة صباحًا، وبعض الكنائس نحو السادسة صباحًا، ويستمرون فى صلوات لا تتوقف إلى نحو السادسة مساءً، والجميع فى صوم كامل دون طعام أو شراب، يستمعون فى خلال تلك الصلوات إلى مجموعة ضخمة من الألحان الجنائزية العريقة والتى تسلمها الشمامسة من المرتلين الأولين وبعضها يعود إلى ألحان مصر القديمة.
وفى هذا اليوم تبدأ الكنيسة فى قراءات عديدة لمتابعة أحداث الصلب لحظة بلحظة، وعندما يقرأ الشماس الإنجيل ويقول: (وكانت ظلمة على الأرض من وقت الساعة السادسة إلى وقت الساعة التاسعة) تُطفأ أنوار الكنيسة ويبدأ الشمامسة فى ترديد أروع الألحان الجنائزية قائلين باللغات القبطية واليونانية والعربية: (أذكرنى يا رب متى جئت فى ملكوتك، أذكرنى يا سيد متى جئت فى ملكوتك، أذكرنى يا قدوس متى جئت فى ملكوتك)، وفى تلك الأثناء تُدق الأجراس بنغمة الحزن فى الكنائس.
وبعد نهاية الصلوات يردد الشعب كله طلبة «كيرياليسون» أى «يارب أرحم» عدد ٤٠٠ مرة بمعدل ١٠٠ مرة فى كل جهة من الجهات الأصلية، وذلك استمطارًا لمراحم الله على شعبه والكنيسة والوطن والعالم وطلبًا لكى ينجى الله العالم من الحروب والويلات والمجاعات. ثم بعد ذلك يدور الكهنة والشمامسة والشعب كله بدورة الصليب حول الكنيسة. وبعد الدورة يشترك الكهنة والشمامسة والشعب فى قراءة مزامير داود النبى البالغ عددها ١٥١ مزمورًا.
وقد اعتاد كثير من الأقباط بعد انتهاء صلوات الجمعة العظيمة أن يتناولوا قليلًا من الخل تشبهًا بالسيد المسيح الذى شرب خلًا ممزوجًا بمرارة وهو مُعلق على عود الصليب، وأنا شخصيًا كنت أرى البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦ وهو يشرب الخل بعد انتهاء صلوات يوم الجمعة العظيمة، كما كان يبكى.
يغادر الشعب الكنيسة ويعودون إلى منازلهم لراحة قليلة ثم يرجعون إلى الكنيسة مرة أخرى فى منتصف الليل فى صلوات مستمرة لأن السيد المسيح كان فى ذلك الوقت فى القبر، وفى هذه الليلة التى تُسمى «ليلة أبوغالمسيس» وصحتها «أبوكالبسيس» وهى كلمة يونانية تعنى «الرؤيا» يستمعون فيها إلى سفر الرؤيا بالكامل، بالإضافة إلى العديد من تسابيح أنبياء العهد القديم: تسبحة موسى النبى عندما عبر مع شعبه البحر الأحمر، وصلاة حِنة أم صموئيل النبى التى أعطاها الله ولدًا فى شيخوختها، وصلاة حبقوق النبى الذى رفعه الرب بتسابيحه، وصلاة يونان النبى (النبى يونس) وهو فى جوف الحوت وقد أخرجه الله بعد ثلاثة أيام إلى الحياة (رمزًا للقيامة العتيدة)، صلاة حزقيا النبى ملك يهوذا حين مرض وقام من مرضع، تسبحة الثلاثة فتية القديسين فى أتون النار، والذين انتقلوا من الموت إلى الحياة إذ كان ملاك الرب معهم فى تجربتهم، والعديد من التسابيح الأخرى التى تشير إلى الانتقال من الموت إلى الحياة.
و«سفر الرؤيا» يتحدث عن الحياة الأبدية وعن كيفية الحياة فى اللا نهائية، وتبدأ الكنيسة فى تغيير ألحانها من نغمة الحزن إلى نغمة الفرح. ورويدًا رويدًا تنتقل ألحان الكنيسة من الحزن إلى الفرح.
تتجلى روعة الكنيسة القبطية- عن بقية كنائس العالم- فى دقة تفاصيل صلواتها مع روعة ألحانها وموسيقاها المُستمد بعضها من ألحان مصر القديمة، بالإضافة إلى تقاليدها، ونخشى التلاعب الحادث فى الألحان الذى سيؤدى فى النهاية إلى تدمير التراث العظيم الذى للكنيسة القبطية.