رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"كفر ناحوم".. لعنة الفوضى والخطايا


"وأنت يا كفرناحوم المرتفعة إلى السماء! ستهبطين إلى الهاوية" (لوقا 15:10)
يبدو أن المخرجة اللبنانية نادين لبكي وضعت مشاكل العالم جميعًا أمام عينيها عندما قررت العمل على فيلم واقعي يختلف عن رومانسية أعمالها السابقة، فانتقت عدة قضايا مطروحة ليس فقط على الساحة اللبنانية، بل كذلك على الصعيد الدولي؛ حيث الأطفال المشردين، ومواطنين يعيشون بدون أوراق ثبوتية، وزواج القاصرات، والاتجار بالبشر، والأبناء غير الشرعيين، وتجارة وتهريب الحبوب المخدرة. كل هذه الأزمات والشرور اجتمعت في مكان محدد تحيطه قضبان ملتهبة من الثالوث المفترس "الجوع والفقر والجهل"، لتخرج للمشاهد بفيلم "كفر ناحوم"، والذي يبدو جديرًا باسمه حقًا.

لمن لا يعلم، فإن "ناحوم" هي المنطقة التي استحقت جل وقت السيد المسيح كي يعظ أهلها، فقد كانت مليئة بالفوضى والمعارك وسفك الدماء والخطايا التي نهى عنها الله، والذي أنذرهم من قبل وبعث لهم النبي يونان لهدايتهم وتحذيرهم من الاستمرار في حياتهم الرديئة هذه.

"زين" بدون هوية.. يشكو والديه ويدينهما لإنجابه بدون سؤاله
تفتتح لبكي فيلمها بمشهد فلسفي ومُلهم لطفل جميل الملامح يبدو من عائلة ثرية إذا مسحت الأوساخ والشوائب عن وجهه، تتعرف من خلال رؤية المخرجة لواقع المعدومين على عدة شخصيات أخرى تشبه "زين"، منهم "راحيل" الخادمة الإثيوبية التي تخلى عنها (الكفيل)، لتعمل بواحدة دورات المياه في ملاهي فقيرة كعاملة نظافة، تتحتضن ابنها غير الشرعي التي اطلقت عليه اسم "يونس" حتى تقابل زين وتنشأ بينهما محبة إنسانية تتلخص في عمل زين ذيالاثني عشر عامًا كجليس لرضيعها،فتنشا علاقة بين الطفلين اتسمتبالمسئولية والالتزام من جانب زين الذي اعتاد مراقبة إخوته الكثر بأعمارهم المختلفة لضمان سلامتهم.
يركز الفيلم على حياة الفقراء حد العدم، من أسرة عائلها مخمور لا يفيق إلا لمامًا، وأم لا مُبالية وغير مدركة خطورة مايتعلم أبناءها من سلوكها، وزين الابن الأكبر لستة إخوة يليه في الترتيب"سارة" التي تبلغ من العمر أحد عشر عامًا وهي الأقرب إليه في العائلة المنكوبة. هناك أيضًا "سحر" التي باعها والديها لتاجر ميسور الحال في شكلزواج بعد أن جاءتها دماء البلوغ ببضعة أيام، فكانتإشارة البدء لتمرد زين على العائلة والحياة بأكملها.
أبرزت لبكي مشاعر العطف والمسئولية التي تتبلور في حياة العائلة في شخص الطفل البطل الذي يهتم بإخوته من صغيرهم إلى كبيرهم،بداية من الطفلة التي تحبو وتتعلم المشي حديثًا،إذ يفك أسرها الذي صنعته الأم بسلسال من معدن قاس على قدمها قيدتها به كي لا تتحرك فتضطر لملاحقاتها والانشغال عن عملها في تذويب أقراص الترامادول المخدرة في الماء تمهيدًا لتهريبها،أو وهو يكتشف بقع دماء على الفراش فيستنتج أن شقيقته الأصغر قد بلغت الحيض فيخلع ملابسه ليصنع لها "فوطة صحية" تقي ملابسها بلل الدماء، ثم معرفته خبر زواجها الذي عارضه بشدة،حتىأنه يمسح ألوان الزينة التي رسمتها أمهما على وجه الطفلة.

سجن اللاجئات بواسطة الملائكة
"جواريها تئن كصوت الحمام ضاربات على صدورهن"(ناحوم 2 : 7)
صورت لبكي المتضادان،حيث جرذان فقراء ألهاهم التكاثر في مُقابل شق حكومي يحمل نبؤة الخلاص؛ متمثلًا في فقراء كثر ينجبونالأطفال بدون حساب بينماالحكومات تحاول خلق حلول لاخطاءهم. يبدو ذلك من خلال محامية جميلة ومتحضرة تقوم بالدفاع عن حق الطفل زين أمام قاضي ذو وجه سمح وابتسامة بعرض السماء، وجنود كجند السماء أيضًا يتعاملون باللطف واإانسانية مع الطفل، حتى أنهم يسمحون له بالاتصال ببرنامج تلفزيوني-بما أن في زنزانة السجن جهاز تلفزيون- يشرح من خلاله مأساة شريحة عريضة من المهمشين والفقراء ومجهولي الهوية على مرأى و مسمع من قادة السجن؛ بالإضافة إلى المشهد الجليل في دخول حملة التبشير إلىأقفاص السجن ليرقصون ويغنون بالتراتيل الدينية أملًا في بث الطمأنينة في قلوب من ليس لهم أمل في الخلاص، في حين أن هناك مجموعة ليست بالقليلة من السجينات اللاتي يعملن فى خدمة منازل المواطنين بحجة أنهن لا يحملن هوية أو تصريح عمل بعد تخلي كفلائهن عنهن، غير مدركين خطورة ما تواجهه الخادمة في شوارع المدينة.

طرق جديدة لتهريب المخدرات
طالما صورت الأفلام المصرية في ستينات وسبعينبات القرن الماضى طرق تهريب المخدرات التي بات بعضهاساذجًا،مثل استخدام الحمام الزاجل،أو إخفاء الممنوعات في حقائب السفرلتمر من اجهزة تفتيش المطارات،أو حتى عن طريق التهريب البري من الصحراء للحدود البرية التي تبدو بدائية لتمرير أهم مشاهد الفيلم، ولكن التعاون السينمائي المصري اللبناني أوضح طرقأكثر جاذبية عن طرق التهريب التي لا يعلم عنها الجمهور غير المتخصص، ففي فيلم "كتير كبير" للمخرج ميرجان بو شعيا ابتكر طريقة جديدة في تهريب المخدرات والتي لا تكشفها أجهزة المراقبة في المطارات،إذ خبأ المخدر في علب الأفلام التي لايُسمح لها بالتعرض إلىأشعة ماكينة التفتيش. هكذا تفعل العائلة اللبنانية المهمشة والمعدومة والتي تحيا على أرض ترفضها ويتشبثون بها رغمًاعنهم، حيث تقوم الأم بمعاونة أطفالها بإذابة حبات الترامادول في الماء تمهيدًا لإغراق بعض الملابس بالسائل،ثم تجففه ليصبح مجهزًا للشخص التالي الذي يقوم بدوره بإغراق تلك الملابس بالماء ومن ثم يصنع عصيرًا مخدرًا ما كانت تطاله يديه لولا استغلال الأم طفلها كي يدور في الصيدليات محتالًا بروشتة طبية توصي باستخدام الدواء الممنوع سوي لحالات كسر العظام القصوى، ولهذا الشأن قصة أخرى.

البؤس الذي لم يخفف من وطأته شخصية صرصور مان
صوّر الفيلم المأساة بعينها وكانه جحيم إليجوريأو آخرون سارتر، فيما يتعلق بأطفال أبرياء بدرجة مجرمبن وآباء جهلاء ولا مبالين بشأن أبنائهم، ربما يحث الفيلم على البكاء ولكن لن تجد المشهد الذي يُطلق دمعاتك حزنًا وتأثرًا به، حاولت المخرجة أن تنتزع التعاطف والبكائيات عن طريق مجموعة من المشاهد المؤثرة والممتلئة بالأحداث الدرامية الحزينة، حين امتلأت جعبتها فاضت من البؤس،فحاولت تقديم فاصل كوميدي يتمثل فى مقابلة فيللينية مع بهلوان يدعو نفسه "صرصور مان" على غرار أبطال مارفيل، ولكن هذا الصرصور زاد من مأساوية أحداث الفيلم ليبدو مثل الضاحكين المبكين أمثال شارلى شابلن ونجيب الريحاني، فيقوم باضحاك الطفل ويتسبب في سعادته لوهله ثم يفاجه بحماقة لا متناهية عندما يحاول تمثيل دور الكفيل المخلص الذي سوف ينتزعه من تيهه، فيبدو المشهد ساذج وخاوٍ منالتفاصيل، وكأن مخرجه لم يتابع تطوراته أو اعتقد أن مجرد ظهور بهلوان وتصدره المشهد كاف لأن يضع عنصر الفكاهة في فيلم بائس يحمل عنوان سفر توراتي يُنبئ بخراب مكان ما يدعي قرية ناحوم.

زواج القاصرات نوع من النجاة
"ويأخذ بناتكم عطارات و طباخات و خبازات"(صمويل 13:8)
كل هذا الكم من الكوارث التي تدور فيالسيناريو قام بكتابتهاأربعة من السينمائيين، هم الموسيقي خالد مزنر، والذي ألف موسيقى الفيلم التي بدت باهتة وبدون إيقاع مميز ولا يمكن تذكرها أو التعرف عليها منفصلة عن الفيلم، وميشيل كسرواني كأول مشاركة له في كتابة سيناريو فيلم سينمائي، وجهاد حجيلي كاتب سيناريو افلام لبكي السابقة (هلا لوين- كراميل) وجورج خباز المؤلف والممثل والمخرج المسرحي، وبالطبع تحت إشراف ومشاركة المخرجة نادين لبكي نفسها.
بالاضافة إلى الكم السابق من القصص الكارثية لابد وأن هناك عروس النيل التي تضحي بنفسها وتستسلم إلى الغرق لإنقاذ عائلتها، هذا مافعلته أسرة زين ببيعها ابنتها لأول مشتري ثري وقادر على مطالب أسرة معدومة تحيا تحت خط الفقر بآلاف الأميال تحت الأرض، كأنها الآية التي تقول "ثم قال لها الملك ما لك فقالت ان هذه المراة قد قالت لي هاتي ابنك فناكله اليوم ثم ناكل ابني غدًا"(ملوك2: 6)
هو الفقر إذًا الذي دفع الطفل زين للهروب وارتكاب جريمة قتل زوج أخته الطفلة سحر، نتيجة مشاهد مؤلمة مُتعاقبة من البحث عن الغذاء المتمثل في قيام زين بسرقة الشعرية أندومي له ولإخوتهواللبن البودرة لإخوته الرضع، وحتى الفوط الصحية لشقيقته التي اكتشف بلوغها قبل أبويه من المتاجر، كل هذا تحت اسم والدته سعاد التي يردد أصحاب المتاجر اسمها بشهوة بالغة توضح للمشاهدين كيف يبدو ماضي "سوسو".الحال نفسه مع النخاس "استرو" المهموم بجمع أكبر كم من الأموال في مقابل تزوير الهويات التي لا تستطيع حملها الخادمات القادمات إلى لبنان، والذي يُهدد بخطف الرضيع من والدته الأثيويبية راحيل/ يوردانوس شيفيرو.
لا نستطيع أن ننكر جماليات الفيلم، من تصوير وكادرات مميزة،أو ألوان متناسقة وتتناسب مع أحداث المشاهد المختلفة، لوّنت لبكي مشاهد الفقر باللون الرمادي المتناسب مع الاقتراب من تراب الأرض، في حين أن الموت الأزرق كان في مشاهد الطفل يونس الجائع المتشوق لصدر أمه، كما استخدمت المخرجة أدواتها في تطور الممثلين الذين يواجون الكاميرا لأول مرة؛ وأقرب مثال هو الطفل زين،أو زين الرفاعي اللاجئ السوري الموهوب الذي تغلب على رهبة الكاميرا وتعامل بمنتهي الصدق والتلقائية التي يفتقدها كثير من الممثلين المحترفين الذينأدوا أدوارًا في السينما العالمية؛ لذا نجح الفيلم في تصدر المشهد السينمائي اللبناني وإثارة الجدل واختلاف الرأي مابين تصنيفه كفيلم "مسيء" ويظهر قاع المجتمع، بينما لا يتطرق لأماكن تصوير متحضرة ونظيفة؛إلا أن المطلب الرئيسي لحصد الجوائز العالمية أن يتميز الفيلم بقدر من الواقعية الزائدة في الألم والمعاناة.