رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأم المثالية هى مَنْ تتحمل الأب غير المثالى


الرئيس السيسى يعطى مثالًا رائعًا فى الاهتمام بالمرأة وضرورة «أنسنة» الظروف، التى تساعدها فى أداء جميع أدوارها، بسلاسة وكرامة ومثالية، ولكن المشكلة الواضحة التى نعانى منها هى أن رئيس الدولة، وهذا أمر فريد ونادر، أكثر تقدما واستنارة من مؤسسات الدولة التى تحيط به، والمفروض أن تترجم رؤيته إلى واقع فعلى. بل هو أكثر تقدما واستنارة من قطاعات كبيرة من الشعب المصرى، ما زالت تحت تأثير التأسلم المزيف والتطرف الدينى والتعصب المذهبى والطائفى، وأيضا العنصرية الذكورية.
يهمنى هنا، وبعد انتهاء شهر مارس، الذى يسمونه شهر المرأة، وبعد الانتهاء من ندوات، واحتفالات، تشيد بدور الأم، أن أطالب بتغيير النظرة إلى الأمهات المثاليات. معايير الأمهات المثاليات أصابها الصدأ من عدم التحرك مع الزمن. وأصبحت نوعًا من الشعارات المحفوظة، لا تضيف شيئًا، يرتقى بحال المرأة، ويرفع من معاناة الأم. لا أدرى منْ يضع هذه المعايير؟. أهى وزارة التضامن الاجتماعى، أم المؤسسات الثقافية؟.
أنا لست ضد تكريم الأمهات، ولست ضد لقب «الأم المثالية»، ولكننى أطالب بتغيير النظرة إلى الأمومة المثالية. إذا تغيرت مقاييس الأمهات المثاليات، فسوف نجد أن القائمة بالفعل سوف تطول، وأننا سنحقق ما نرجوه من إعطاء الكرامة، والإنسانية الكاملة، لنصف المجتمع، ونصف الحياة.
«تربية الأبناء.. عطاء بلا حدود.. تضحية لا نهائية.. إنكار الذات.. حفاظ على تماسك الأسرة» هذه معايير ترسخ كيان الأم التى تضحى وتتحمل كل شىء، وتعانى من أجل الأطفال، وتنسى نفسها كإنسانة لها حريتها وكرامتها وحقوقها، التى لا بد أن يحترمها الزوج، الأب، والأطفال أنفسهم، وقوانين الدولة، والعرف، وحقوق البشر. إن «العطاء بلا حدود»، معناه مباشرة أن هناك طرفًا أو أطرافًا «تأخذ بلا حدود».
و«العطاء دون حدود»، معناه أن تتقبله الأم وتتحمله صابرة، راضية، بقضاء الزوج الأنانى، والأب المتهرب من مسئولياته، مستخدما سُلطته المطلقة التى يعطيها له الشرع، والقانون، والعرف. تنتظر الأمهات «المقهورات» على أبواب المحاكم، و«تتبهدل»، وتدفع دم قلبها، وصحتها، وسنوات عمرها، من أجل أن تحظى بكلمة عدل واحدة، ضد الأب الخائن، أو المزواج، أو المتهرب من نسب أطفاله، أو الخاطف أطفاله من حكم الرؤية، أو المزور بياناته الشخصية حتى لا يدفع النفقة.
تضطر الأمهات إلى العمل بأدنى أجر، أو حتى العمل خادمات فى البيوت، لكى تحفظ كرامتها، وحقوقها المهدورة من آباء لا يهتمون إلا بنزواتهم الجنسية العابرة أو غير العابرة، ولكى تعول أطفالها وتحميهم من التشرد، والجوع، والبهدلة، وحتى «تحافظ على الأسرة»، التى يبيعها الأب فى لحظة. «الحفاظ على الأسرة»، مهمة الأم وحدها، ومسئولية الأم وحدها، تقوم بها، لأن الأب ليس من اهتماماته «الحفاظ على الأسرة» على الإطلاق. هى «تحمى الأسرة»، وهو «يدمرها فى لحظة»، ينطق بها بالطلاق الشفوى، أو غير الشفوى، حتى لو كان فى أنصاص الليالى، وليس هناك ملجأ للأم هى وأطفاله. هى «تفعل المستحيل»، للحفاظ على الأسرة. وهو «لا يفعل الممكن» للحفاظ على الأسرة. أى منطق هذا؟ وأى عدل هذا؟ وأى أخلاق هذه؟.
إنها الأخلاق الذكورية، التى ترى المرأة «ممسحة» لخطايا وأخطاء وغطرسة وتسلط وعنجهية وأمراض وعُقد وإحباط الذكور داخل الأسرة. وتعتبر المرأة «جارية» جاهزة عند الطلب، لأوامر السيد، الذى لا يقبل إلا كلمة «حاضر يا سيدى أمرك». وهى فى قانون الأحوال الشخصية، «ملكية خاصة»، يفعل الزوج بها ما يريد، متى يريد، كيفما يريد. وإن نطقت، وتمردت، وسألت عن حق إنسانى واحد، توصف «بالنشاز»، و«الجنون». وأحيانا بـ«الكفر». نعم بالكفر. أليس الرجل خليفة الله فى الأرض، وبالتالى عدم الطاعة كفر واضح، لا بد من عقابه بأشد الطرق.
كل معايير الأم المثالية، مع الأسف، ترسخ هذه الصورة المقهورة للأمومة. كلهن يدفعن ثمن الأبوة المتسلطة بالقانون، والشرع، والعرف، وغياب العدالة بين الأم والأب، والاستهانة بكرامة المرأة. ليس هناك معيار واحد يعدل الميزان ويرحم الأمهات ويحترم الأطفال. المهم أن تربى، وتعلم، وتضحى، وتتحمل الذل، والمهانة، من مخلوق «ابن تسعة» زيها، لا يزيد عنها فى شىء. بل هى الأفضل إنسانيًا وخلقيًا وإحساسًا بالمسئولية.
لا أحد يمس جذور معاناة الأمهات «المقهورات» سابقا، «المثاليات» حاليا، ألا وهى السلطات المطلقة للأزواج، والآباء، شرعيًا وقانونيًا. وتكفى نظرة واحدة على أبواب المحاكم، لنرى طوابير الأمهات الواقفات منذ سنوات ينتظرن الحكم بالعدل والمنطق والرحمة، دون جدوى. إلى أن تُكسر هذه السُلطات المطلقة، سيكون الاحتفال بالأمهات المثاليات مجرد روتين سنوى، اعتدنا عليه، مثل أكل الفسيخ فى شم النسيم، أو أكل الكحك فى العيد.
من بستان قصائدى
أتعاطى يأس الاشتياقات...
مثل المضاد الحيوى...
مرة كل ٨ ساعات...