رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«سوّاح».. احذروا التطبيع باسم الفن



«سواح» هو عنوان فيلم سينمائى سيعرض فى دور العرض السينمائية المصرية قريبًا، وشاركت فى إنتاجه شركة المنتج والموزع والسيناريست الشاب محمد حفظى الذى كشفت وسائل إعلام وصحف مصرية، عن أنه استقدم ودعا منتجين من إسرائيل فى دورة مهرجان القاهرة السينمائى الدولى الأخيرة، والتى رأسها لأول مرة فى تاريخ هذا المهرجان، فى ظل مقاطعة شعبية ثقافية للكيان الصهيونى، وحالة الرفض العامة للتطبيع الشعبى والثقافى الذى لا علاقة له بالدبلوماسية التى تضطر الدول لممارستها فى علاقاتها بالغير.
فيلم المخرج المصرى السكندرى المولد الذى يعيش فى لوكسمبرج واسمه أدولف العسال نموذج صارخ يؤكد ويثبت فقد الجيل الثانى الذى تربى فى الخارج لكل ما كان يعنى جيل الآباء، وبالطبع لاقت تلك الرؤى المستحدثة من يشجعها ويحفزها للظهور، وفيلم «سوّاح» الذى أتوقع أن يثير جدلًا واسعًا عند عرضه فى مصر قريبًا، مثال حى على تشتت وفوضوية فكر غالبية الجيل الثانى الذى تعددت هوياته، فتشتت بدلًا من أن يكتسب من مشاربه المتنوعة ثراء، فحاد حتى عن الهموم الإنسانية العامة، واعتقد أنه يحسن صنعًا بالتطبيع مع الكيان الغاشم الذى يبيد ويقتل ويرتكب مذابح يومية، وكأن الإنسانية وقبول الآخر، تعنى قبول القتلة والإيمان بإنسانية المجازر!.
ويظهر الفيلم ميل مخرج وبطل العمل لمشوار العندليب عبدالحليم حافظ صاحب أغنية سوّاح، ونرى صورًا فى الخلفية لكوكب الشرق رغم تعلق البطل بأنماط أخرى من الموسيقى، فيعتقد المتلقى أنه يجمع بين الأصالة والمعاصرة، فى حين أنه لا علاقة له بالأصالة على الإطلاق.. هى فقط مجرد صور وأسماء يعرفها ويحتفظ بها كديكور فى الخلفية، ليعطى انطباعًا إنسانيا رحبًا فيه نوع من القبول والعراقة، فى حين أن الممارسات الحقيقية لا علاقة لها بقيم ذلك الجيل السابق.. فقيم اليوم لا تعير أى التفات لقضايا الأمس، وكل ما تعرفه هو قضايا الدعم والانفتاح المشترك، واحتكار سوق الفيلم والتوزيع للخارج وغيرها من آليات التربح.
الجيل الذى تشتت فكره، فرمى نفسه فى أحضان العدو باسم الإنسانية والحضارة وأن الفن لا علاقة له بالسياسة، وهو نفسه من أقحم السياسة فى الفن وعن عمد بل وبإصرار وتربص وترصد، وهذا ما ظهر جليًا فى الفيلم عندما سعى بطله الممثل المصرى كريم قاسم وراء حلم الشهرة والعالمية والموسيقى بالسفر للخارج وترك بلاده وهى فى حالة ثورة سيقت فى الفيلم أيضًا كخلفية وديكور أو شىء ثانوى مقحم على رحلة البطل من أجل الشهرة والنجاح.. تلك الرحلة التى ملأتها العراقيل والمنحنيات المضحكة لزوم الدراما ومتطلباتها. فموضوع الفيلم لا علاقة له على الإطلاق بالثورة المصرية التى زج بها لزوم الحصول على التمويل.. فللإنتاج المشترك دومًا معاييره ومتطلباته وقضاياه.
فلا بد لك دومًا من طرح قضايا لها علاقة بالثورة أو المرأة أو القهر أو الكبت أو الجنس أو عمالة الأطفال، ليأتى لك الدعم والإنتاج المشترك.
ولأن المراد تحقق لصاحب العمل بالفعل، فلم يهتم حتى بأن يوضح موقفه من تلك الثورة أو لعله وضعها فى خلفية الأحداث، ليقول إن لبطل العمل ثورته الخاصة ومشروعه الخاص الذى انكفأ عليه ولا علاقة له بشأن بلاده.. فالانغلاق على الذات والتوجهات الفردية الذاتية الأنانية، هى التوجه الحقيقى للبطل وغالبية أبناء الجيل الذى يعبر عنه البطل ومخرج العمل، والذى يرى أيضًا أن السلطة، أى سلطة سواء فى الشرق أو الغرب، هى حتمًا غاشمة وبالتالى ربما تكون الأناركية هى الحل، لكن ستظل إسرائيل خارج أى مقارنة أو حسابات، والصهاينة والأمريكان هم الحمى والحضن والملاذ مهما قتلوا أو ذبحوا!
فعلى الرغم من تصريحات البطل المباشرة فى الفيلم بأن لا شأن له بالسياسة وهو نفس ما ردده المخرج فى الندوة التى أعقبت عرض الفيلم فى فعاليات الدورة الـ١٩ لمهرجان روتردام للفيلم العربى فى هولندا، وهو العرض العالمى الأول للفيلم الذى جعل الصديق والرفيق المقرب للبطل المصرى فى العمل إسرائيليا، فى حين ظهرت شخصية المغربى الذى التقاه البطل المصرى فى رحلته محتالًا تسبب له فى كل كوارثه اللاحقة، لذلك حاول المصرى إنقاذ الإسرائيلى والعكس، وبالتالى شاهدنا وعايشنا حالة إنسانية خاصة ملأتها الكوميديا بين الصديقين المصرى والإسرائيلى وبعد أن وصلتنا كل تلك المشاعر الإنسانية النبيلة والجياشة وتشبعنا بتفاصيلها.. يتراجع المخرج وكاتب السيناريو ويجعل الصديق الذى صدر لنا على أنه إسرائيلى وأحببناه، أنه من أوغندا لا من إسرائيل فى التفافة عمدها وقصدها القائمون على هذا الفيلم لإدراكهم وتوقعهم حجم الرفض بل وربما الهجوم الذى سيلاقونه. فقبل أن يهاجموا تراجعوا، ولكن بعد أن وصلوا رسالتهم كاملة مكتملة وطبّعوا بين بطلى العمل المصرى والإسرائيلى، وهى بالطبع حيلة جديدة شديدة المكر فى تمرير ما يراد تمريره دون أن يُلام عليهم.. فالصديق المحبوب من أوغندا لا من إسرائيل، فعلام الثورة إذن ولماذا الغضب؟ فنحن لسنا بمطبعين ولا ندعو للتطبيع ولا علاقة لنا بإسرائيل بل بأوغندا وإفريقيا الشقيقة! حيلة لا تمر على غلام أو مراهق، وكنت سأحترم القائمين على العمل إن وجهوا رسالتهم التطبيعية بشكل مباشر بلا مكر أو التفاف.. فوجهات النظر متاحة وهى حق للجميع بل حتى الخيانة نفسها صارت فى الآونة الأخيرة وجهة نظر!
ما أكثر الوقاحات والالتفافات وحالات المكر والتواطؤ التى تمارس باسم الإبداع والفن والحقوق والإنسانيات ووجهات النظر.