رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماذا لو بقيت قليلا..؟!



أتساءل الآن..
كنت قريبة من الشاطئ خطوة، خطوتان، ربما عشر. وكان البحر كساحر عجوز يستعرض آخر مهاراته، يقلب فى جيبه، ويستحث الجمهور، يستعطفه مجرد محاولة أخيرة وقبل إسدال الستارة، يفاجئهم بموجة يقذف معها آخر أنفاسه، فيتصايحون ويتمايلون ابتهاجًا، فينتشى البحر ويتذكر كل ألعابه القديمة.
وكانت علاقتنا الوطيدة، وصيفياتى التى لا تنقطع عنه، تتيح لى أن أتدلل عليه وأقترب منه أكثر وأشد ذقنه البيضاء، لكن البحر لم يعد هو البحر الذى أعرفه، صار حساسًا لأية كلمة تنتقص من قدره، بما يليق حقًا برجل فقد أسنانه، حتى إنه لم يتقبل أن أناديه:
- أيها العجوز.
فضربتنى إحدى موجاته ودفعتنى. بل تجاوزتنى وقد غطت رأسى، دون أن تنظر للخلف. كانت الضربة مفاجئة، فقدت توازنى وكدت أسقط، لكنى استندت بيدى اليمنى على القاع.. كانت المياه شديدة النقاء، ومن تحتها تتلألأ ابتسامة الرمال، وقد تجمع الرفاق فى دائرة يتبادلون الضحكات الرائقة وصفو البال، ويدعوننى للبقاء وأن أتخذ مقعدى الشاغر منذ سنوات كى تكتمل الدائرة، وكانت مكتبتى كما هى وبلكونتى تسعنا، وكانت مليئة بنباتات الصبار التى أمسح عنها الغبار الذى يعيق تنفسها وتنفسى، لكنى ثنيت إحدى ركبتى ورفعت رأسى سريعًا مخافة أن تغمرنى موجة أخرى.
نهضت وقد ابتلت ملابسى «الشورت البيج» و«التيشيرت البنى»، وشعرى الرمادى المربوط بشريطة سوداء، والذى يدعونى ابنى كلما رآنى خارجة من البيت لتغطيته بإيشارب يناسب وقار أعوامى الثلاثة والستين.
أعطيته ظهرى وابتعدت، دون أن أتيقن رد فعله وأنا أشير له بإصبعى الصغير مهددة بالخصام، كما علم أبى الطفلة الصغيرة التى كنتها.. ولكى أكون صادقة بالقدر الذى يجب أن تتصف به امرأة تقترب من النهاية وتشترى قطعة أرض لكى تكون مقبرتها، فإننى أشعر أن أمواجه وأنا أبتعد كانت حانية، ولا أبالغ إذا قلت إنها كانت تستحثنى على البقاء.
فماذا لو بقيت قليلا..؟
أتساءل الآن.. وكوب التمر الهندى المثلج بين كفى وأنا أجلس على السور الحجرى الفاصل بين الطريق المسفلت ورمال الشاطئ، أهز قدمى حينًا وحينًا آخر أرسم بأصابعى على الرمل. خلفى تتناثر عشرات المحال الصغيرة، معظمها يبيع المشروبات الأسوانية «الدوم، التمر هندى، الخروب، الكركدية»، كل يوم أخصصه لمشروب واحد وأتخلص من سعرات «البيبسى والكوكاكولا».
واليوم موعدى مع الكركدية، لكن مزاجى لا يحتمل بهجة الكركدية، طعم التمر هندى لاذع، عندما أشربه يملأنى بالحنين للفضفضة.
لم يلاحظ أحد سقوطى، ابنى يدعو الجيران للاحتفال بعيد ميلادى، وزوجته تحت الشمسية ذات اللون البرتقالى والنجوم الخضراء، ترص الأطباق والمناديل والملاعق والشوك وتجهز علب الحلوى والجاتوة، استعدادًا لغروب الشمس وبدء الحفل.
قدومهم من القاهرة للاحتفال بعيد ميلادى ليس أولى المفاجآت، زياراته الأسبوعية الأخيرة حملت لى ما هو أكثر.
فى المرة الاولى اشتكى من غلاء الأسعار والدخل الذى يتناقص بعد أن تفرغت زوجته لتربية طفلهما. شعرت بالتقصير، وقررت أن أتنازل له عن معاش زوجى وأكتفى براتبى ومكافأة نهاية الخدمة. كنت وقتها أضع أسئلة امتحان لطلابى بالفرقة الرابعة، وورد على خاطرى سؤال لماذا نجح شعار أسرة صغيرة تساوى حياة سعيدة فى الدول المتقدمة وفشل فىالدول النامية؟
فى الزيارة الثانية كانت زوجته بصحبته، تحدثا عن الوحدة والسن والمرض.. جملهم المبتورة أقلقتنى، فطرحا الخطة كاملة: أن أغلق البلكونة بالألوميتال، أنقل ما أحتاج إليه من حجرة مكتبتى لحجرة نومى لينتقلا للإقامة معى ويؤجران شقتهما مفروشة.
كنت أصحح كراسات الإجابة للطلاب، وكانت معظم الإجابات صحيحة. ولكم حيرنى أنى صححت أربعين كراسة فى حين أن من يحضر محاضرتى ما كان ليزيد على عشرة طلاب فقط.
رفضت الاقتراح، فاتهمانى بالأنانية وخرجا غاضبين.
فى المرة الثالثة جاء ليعتذر، لم يقصد اتهامى، فامرأة مثلى لا ينبغى أن تقيم بمفردها، لا بد من وجود رجل فى البيت، خاصة عند استقبالى لطلابى من الذكور، فى هذه المرة كدت أصفعه لكن وجهه كان لزجًا بما جعلنى أقشعر من مجرد لمسه. سلمت أوراق الإجابات للكلية وحزمت حقائبى لمرسى مطروح، لم يتركانى، جاءا للاحتفال بأعوامى التى مضت ويشاركانى أيامى القادمة.
- الشقة إيجار قديم وستؤول للمالك بعد عمر طويل، لكن لو أقمنا معك ستكون الشقة من حقى.
تقترب الشمس من المغيب والجيران يتجمعون حول المنضدة الكبيرة والشمسية ذات اللون البرتقالى والنجوم الخضراء مطوية، وابنى تبحث عيناه عنى والتورتة، لا تتسع لشمعات أكثر.
- فماذا لو بقيت قليلا..؟