رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: سعد باشا ورحلة البحث عن الذات

جريدة الدستور

ثورة ١٩١٩ واحدة من كبرى ثورات الشعب المصرى، كما فصلت لك القول فى ذلك على مدار أسابيع أربعة. فقد شارك فيها كل قطاعات المصريين الطلبة والعمال والفلاحين والموظفين والمثقفين، المسلمين والمسيحيين، الشباب والشيوخ، الرجال والسيدات والآنسات، وكانت مظاهراتها أشبة بلوحة الفسيفساء التى تتمازج فيها جميع الأطياف الشعبية. وامتازت أيضًا بوضوح أهدافها المتمثلة فى: الجلاء ووحدة مصر والسودان وبناء حياة نيابية حقيقية، كما امتازت بوجود قيادة مميزة على رأسها. وإذا كانت الثورة قد حققت لمصر استقلالًا منقوصًا كما يذهب أغلب المؤرخين، إلا أنها أفرزت فكرًا جديدًا يؤكد على مفهوم الدولة المدنية، والفصل بين الدين والسياسة «الدين لله والوطن للجميع»، والحياة الدستورية. جوانب عديدة يصح التوقف أمامها ونحن نسترجع أحداث هذه الثورة. لعل أبرزها شخصية قائدها سعد باشا زغلول الذى يمثل شخصية فريدة من نوعها، سواء على المستوى البشرى العادى، أو على المستوى القيادى.
من أكثر الكتب موثوقية فى الوقوف على تاريخ سعد زغلول وقيادته ثورة ١٩١٩، الكتاب الذى ألفه الأستاذ عباس العقاد حول شخصيته وعنوانه «سعد زغلول.. سيرة وتحية». ويشير فيه إلى أن زعيم الأمة فلاح مصرى ولد عام ١٨٦٠ بقرية «إبيانة» إحدى قرى الغربية، وتعلم فى الأزهر الشريف. وتتلمذ على الشيخ محمد عبده، وشارك معه فى تحرير جريدة الوقائع المصرية. وعندما اندلعت ثورة عرابى عام ١٨٨٢ شارك فيها سعد، وناله من أذى الاعتقال بلاء غير يسير، وخسر وظيفته وبات فى قائمة أنصار عرابى. اهتم «العقاد» فى كتابه بالتأريخ لأدوار سعد باشا خلال مرحلة الثورة. وذهب إلى ما ذهب إليه غيره من أن «زغلول» ولد ولادة جديدة مع هذه الثورة، ولم يهتم هؤلاء فى أغلب الأحوال بالتوقف أمام المحطات التفصيلية لحياة الزعيم قبل الثورة.
سيرة حياة سعد باشا، تضعنا أمام شخصية تعبر بعمق عن الكثير من سمات الشخصية المصرية، بما تشتمل عليه من تناقضات، ومسيرتها فى الحياة. طفولة عادية تتحرك بتوجهات الأب، وشباب ثائر فائر يدافع عن المثاليات بنقاء وضراوة، ثم تجربة موجعة محبطة يرتطم فيه الرأس بصخرة الواقع، فتدفع بصاحبها إلى التخلى عن الأحلام المثالية ليصبح أكثر واقعية، ومن الواقعية يتعلم المرء السياسة وحيل الحياة لتبدأ دورة الطموح الشخصى فى العمل، وبعد تحقيق الكثير من الأحلام الشخصية، يبدأ الإنسان فى الزهد فى الأشياء، فينخرط فى دائرة الحلم العام للمجتمع الذى يعيش فيه، بحثًا عن حسن الختام، وبعد رحلة تطول أو تقصر تنتهى الرحلة بالزهد فى الحياة ذاتها، والاطمئنان إلى حقيقة أن الموت هو الواحة الكبرى التى يستريح فيها الإنسان من «وعد الشقاء» فى الحياة.
هذه باختصار سيرة حياة سعد زغلول، والتى تتشابه فيما مرت به من محطات مع سيرة الكثير من المصريين، لذا كان من الطبيعى أن يكون زعيمًا لأضخم ثورة عاشتها مصر. فالناس تبحث عمن يشبهها وتختار السير خلفه. وفى سياق التشابه مع المجموع تولد شخصية الزعيم، وتكتسب وهجها، ويلمع نجمها فى المحيط العام. يصف «العقاد» زعامة «سعد» قائلًا: «غاندى كان زعيمًا على أمة الهند، لأنه كان ناسكًا من أمة النساك، ومصطفى كمال باشا كان زعيمًا لأمة الترك لأنه جندى من أمة جنود، وسعد كان خير زعيم فى مصر لأنه فلاح من أمة فلاحين».
شارك سعد زغلول فى ثورة عرابى ١٨٨٢، وكان عمره ٢٢ عامًا من مواليد ١٨٦٠، يحلم بمجتمع أكثر مثالية ينال فيه الفلاحون- أصل البلاد- حقوقهم، ويتخلصون من التمييز السلبى الذى يمارس ضدهم لصالح الأكراد والجراكسة وكل أجنبى تطأ قدمه أرض المحروسة. ثورة عرابى كانت ثورة فلاحين بامتياز، لذا كان من الطبيعى أن ينخرط فيها «سعد» الفلاح المصرى الذى يمور شبابه ويفور بالكثير من الأحلام والمثاليات. تكالب الجميع على ثورة عرابى: الإنجليز والأتراك والسراى، فهزمت هزيمة ساحقة، ولدت فى نفوس الكثير من المصريين المؤيدين لها إحساسًا عميقًا باليأس والإحباط، ناهيك عما تسببت فيه من شق فى الصف الوطنى، إذ ظهر من بين المصريين حينذاك من رأى فى الثورة كارثة على مصر، ولم يتوقف هذا الرهط عن لعن عرابى والعرابيين، حتى بعد أن أصبحت الثورة مجرد ذكرى.
كان الشاب سعد زغلول من أشد المناصرين لعرابى، والأرجح أنه كان ضمن المجموع الذى سقط فى دائرة اليأس والإحباط بعد فشل الثورة واحتلال الإنجليز لمصر. فى سياق هذه الحالة نستطيع أن نفهم الاعترافات الشجاعة التى سجلها سعد زغلول فى مذكراته، من أنه كان يعاقر الخمر ويلعب «القمار». وماذا يمكن أن ننتظر من شاب محبط رتعت المثاليات فى وجدانه، ثم تحطم رأسه على صخرة الواقع؟. أكثر من هذا بدأ الشاب يفكر فى مستقبله بصورة أكثر واقعية، وقد تعلم من الثورة التى شارك فيها أهم درسين فى حياته: أولهما أن العاقل يجب ألا يفتح على نفسه أكثر من جبهة كما فعل عرابى حين وقف ضد الإنجليز والخديو والسلطنة العثمانية، فتحالف الجميع ضده حتى قضوا على حركته، وثانيهما أن للواقع حساباته الأشد تعقيدًا عند مقارنتها بحسابات الأحلام.
تحول «سعد» بعد ثورة عرابى إلى شاب واقعى يفكر فى مستقبله العملى وطموحه الشخصى. واختار لنفسه حلم الوصول إلى مقعد الوزير. ولا نستطيع أن نقرر على وجه التحديد، هل كان سعد يبحث عن هذا الحلم على سبيل الوجاهة أم رغبة فى الإصلاح؟. بدأت رحلة تحقيق الطموحات بزواج «سعد» من «صفية هانم فهمى»، ابنة واحد من أكبر أصدقاء، وإن أردت الشطط قُل عملاء الإنجليز، وهو مصطفى باشا فهمى. حين تقدم سعد لـ«صفية» كان «مصطفى» رئيسًا لوزراء مصر، وكبيرًا لعائلة إقطاعية معروفة ذات جذور تركية. رفض الأب فى البداية أن يزوج ابنته من هذا الفلاح القادم من قرية «إبيانة»، رغم أن أسرة سعد كانت تحوز أطيانًا وأراضى بمساحات كبيرة. تدخل قاسم أمين فتوسط بين سعد ومصطفى باشا حتى اقتنع الأخير لتتم الزيجة.
يتوقف الكثيرون أمام هذه المفارقة التى جعلت سعد يصاهر واحدًا من كبار عملاء الإنجليز فى مصر، ثم يقوم بعد ذلك بقيادة المصريين فى أكبر ثوراتهم ضد الإنجليز. وفى ظنى أن الأمر لا يعبر عن مفارقة قدر ما يعكس واقع التحول الذى طرأ على شخصية سعد زغلول بعد فشل ثورة عرابى. فقد آثر صداقة الإنجليز على عدائهم، وعلاقة زعيم الأمة باللورد كرومر معروفة، ولم يمتدح كرومر أحدًا فى خطبته الأخيرة قبل أن يغادر مصر إلا سعد زغلول. وفيما بعد كان سعد على رأس المستقبلين لأول مندوب سامٍ بريطانى يفد إلى مصر بعد فرض الحماية عليها عام ١٩١٤، فى وقت كان الشعب يرفض وضع مصر تحت الحماية الإنجليزية رفضًا تامًا.
التحولات التى شهدتها شخصية سعد من ثائر ضد الإنجليز عام ١٨٨٢، إلى صديق للإنجليز وصهر لأكبر عميل لهم، تؤكد أنه أصبح مسوقًا بطموحاته فى الوصول إلى حلمه الشخصى الأكبر والمتمثل فى الجلوس على مقعد الوزير، بل ربما حلم أكثر بالجلوس على مقعد رئيس وزراء مصر. ولا نستطيع أن نحدد بشكل دقيق الدرجة التى تدخلت بها خطوة زواجه من صفية هانم فى تأكيد وتغذية أو تحقيق هذا الحلم.

دوري ابطال اوروبا

365Scores.comمزود من

الدوري السعودي

365Scores.comمزود من

الدوري الانجليزي

365Scores.comمزود من

الدوري الاسباني

365Scores.comمزود من