رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى أرض المطار

جريدة الدستور

كان قد اتصل بى قبل يومين.
لم أكن أعرف له طريقًا أو حتى رقم هاتف، كل ما أتذكره أنه يسكن فى منطقة المطار بإمبابة، وأنه يعمل سائق «توك توك» بداية من سلم المطار مرورًا بمزلقانه المتعثر حتى البراجيل، ولا مانع فى الذهاب إلى أرض اللواء أو لعبة.
كنت دائمًا ما أتذكره عندما أرى أى «توك توك» وما أكثرها، ويخيل لى كثيرًا أنه السائق، ولكن لسرعته المرعبة ولبرود سيارات الأجرة التى أركبها دائمًا لم أره مطلقًا.
فى هذا المساء من أواخر شهر رمضان، كنت خارجًا من العزبة، ولم أكن قد حددت وجهتى بعد، مررت بأكوام القمامة الملقاة فى منتصف الطريق، والتى علت الرصيف وتناثرت من حوله، ثم ابتعدت قليلًا، أخرجت الهاتف من جيبى ووجدت الساعة وهى تحبو للحادية عشرة، اتصلت به، وقبل أن أسمع صوت الجرس سمعت صوته، تعجبت لبرهة لكنى واصلت الحديث.
- فينك.
- فى العزبة.
- عزبة..؟
- لا.. الصعايدة.
- الصعايدة.
قالها وهو يتمطع فى الألف الوسطى، ثم طلب منى أن أذهب إليه فى المطار، وقال لى عندما أصل عند السلم أجرى له اتصالًا وأنزل عند محل العصير وأنتظر.
كان كوبرى أحمد عرابى مزدحمًا فى بدايته، ولمحت من النافذة شابًا يمسك فى يده بعض النقود الورقية وأخرى من الفضة ينقلها بين كفيه، ويقول للسائق إن هناك سيارة قد تعطلت فى منتصف الكوبرى وأغلقت الطريق أمام المتجه إلى عمارة وأيضًا المتجه إلى المطار.. بعد قليل بدأت السيارة تمشى ثم أسرعت فى طريقها، ولمحت السيارة الواقفة ومن خلفها ثلاثة شباب يدفعونها لجانب الطريق، ومن فوقهم رأيت جزءًا من الكوبرى القادم من أرض المطار القديم، الذى لم يُستكمل بعد.
وبمجرد أن هبطت السيارة من الكوبرى اتصلت به على الفور، وسمعت صوت الجرس هذه المرة، توقعت أن أسمع صوته بعد ذلك، لكنه.. «كنسل».
نزلت عند محل العصير كما قال لى، ووقفت أتطلع إليه وأنظر هنا وهناك، حتى رأيته قادمًا ناحيتى، سلّمت عليه وسلّم علىّ بترحابٍ شديد، كان من خلفه شاب لم أتيقن أنه بصحبته إلا عندما ملت على أذنه وقلت:
- هى الجثة دى معاك؟
- آه.
قالها بكل ما أوتى من برود، سلّمت عليه وسلّم علىّ بفتور لكنى لم أهتم، مال صديقى على «توك توك» كانت وجهته عكس اتجاهنا، وقال للعيل المفترض أنه سائقه:
- داخل جوه؟
ودون أن ينظر إليه قال له:
- لا، معايا ناس والله.
وبالفعل رأيت امرأتين تتشحان بالسواد، إحداهما تحمل كيسًا يبدو ثقيلًا عليها والأخرى تجر طفلًا من يده، وتتجهان إليه، رجع صديقى ووقف بجانبنا، اقترحت عليه أن نمشيها، وما كاد أن يعقب إلا ووقف أمامنا «توك توك» آخر بعد أن أشار له صاحبه، وعلى الفور انطلق بنا هذا الاختراع على نغمة موسيقى واحدة لا تتغير ولا تمت بأى صلة للكلمات التى تتبعها، والتى كانت تروى خيانة زوجية بأدق تفاصيلها، فى تلك الأثناء تكلمت مع صديقى عن عمله وعن «التوك توك» الذى كان يعمل عليه..
- يااه إنت لسه فاكر.
- ماذا؟
- تركته منذ زمن.
- والآن؟
- شركة تكييف فى مدينة نصر.
- أفضل؟
- الحمدلله.
كان موضوع الأغنية قد تطور بعض الشىء إلى الكيف وأخواته، ثم أشار صديقى للسائق بأن يقف هناك عند كشك الكهرباء.
نزلت وصاحبه من جانب، ونزل هو من الجانب الآخر كى يعطى السائق الأجرة، ووقفت أنتظره، ولمحت ثلاثة كراسى بجوار الكشك مباشرة، وكان آخر من الجريد يجلس عليه شاب، بالكاد استطعت أن أرى وجهه من الكاب الذى يستقر فوق رأسه. تقدمنى صديقى وجلس وهيّأ لى المقعد الآخر، ثم عرفنى على صديقه صاحب الكاب..
- صاحبى وحبيبى وعمدة المطار.
ثم أشار إلىّ:
- بلدياتى وكان معايا فى الجيش.
- أهلًا وسهلًا المطار نوّر.
- ربنا يخليك.
أخرج صديقى من جيبه علبة سجائر كليوباترا بورقتها الذهبية، وأخرج منها سيجارتين، وقال لى وهو يعطى لصاحب الكاب واحدة:
- لسه مش ناوى تشرب سجاير؟
- لا.. كده أحسن.
- طب تشرب إيه؟
- أى حاجة.
نظر لصاحب الكاب وقال:
- نشرب إيه؟
- شاى.
ثم نظر إلىّ وقال:
- شاى؟
- ماشى.
قام صديقى وتنبهت لصاحبه الذى جاء معنا بأنه غير موجود، التفت لصاحب الكاب وأنا أستند بيدى اليمنى على الكرسى الخالى الذى يفصل بينى وبينه، وقلت:
- أين ذهب..؟
- لا أعرف ربما ذهب إلى البيت.
فترة صمت.. تأملت فيها الشارع
كان أمامى مباشرة على الجانب الآخر سنترال يعلو عن الأرض بثلاث درجات، وبجواره صيدلية على نفس الدرجات، وفى أرض الشارع أمامهما تستقر عربة يد مؤهلة لتصبح كارو، وأمامها رجل بجلباب بلدى يعدّل من وضع بعض الأقفاص الفارغة.
لمحت صديقى قادمًا وفى يده صينية تهتز فوقها ثلاثة أكواب من الشاى، وكوز بلاستيك ملىء بالماء على آخره.
قال له صاحب الكاب مستنكرًا بعض الشىء:
- بنفسك.. فين مصطفى؟
- راح يفك.
ثم أخذ منه الصينية ووضعها على الأرض وأخذ يقلب الأكواب الثلاثة، جلس صديقى على الكرسى الخالى الذى يتوسطنا، تناولت الكوز ورويت عطشى، واستكملها صديقى ثم ناولنى كوب الشاى، أمسكته بحرص وارتشفت «شفطة»، وما إن وضعته على الأرض بجوار الكشك إلا ورأيت شابًا قصير القامة مال مباشرة وأخذ الصينية وأعطى لصديقى نقودًا كان أغلبها من الفضة.
قال له صاحب الكاب بعد أن شرب آخر ما تبقى فى الكوز:
- عايزين ماء يا درش.
أخذ منه الكوز وقال:
- سأحضر لكم زجاجة.
وتمتم ببعض الكلمات واختفى.. قلت لصديقى:
- ماذا يقول؟
- لا تهتم.
كان الشارع لا يهمد من الأقدام الرائحة والغادية، كذلك أيضًا السنترال والصيدلية، وبين الحين والآخر تمر بعض النساء والبنات اللاتى يتشحن بالسواد وهن يحملن صاجات مغطاة بقطع من القماش الخفيف.
ظهر صاحبه فجأة أمامنا وهو يقول:
- حد عايز كحك وبسكوت؟
ثم جلس عن يسارى وأعطى ظهره للكشك الفضى الملىء بإعلانات المدرسين، ولاحظت أن تحت كل اسم مدرس ليس فقط اسم المادة التى يدرسها فحسب، بل ويتبعها أيضًا بشعار يتناسب مع تلك المادة، مثل: عملاق اللغة العربية.. كمبيوتر الأحياء، ثم نظر لكوب الشاى الذى فى يدى وقال مستنكرًا:
- ألم يحضر لى أحد شاى؟
رد عليه صاحب الكاب وهو يحتسى كوبه بنفس اليد التى بها السيجارة:
- يعنى نجيبه ويبرد.. ثم إنت كنت فين كل ده؟
أعطى له صديقى كوبه الذى انتصف، تمنّع قليلًا لكن صديقى ألحّ عليه، فأخذه ورفعه عند فمه، وقال لصاحب الكاب وهو يخفضها قليلًا:
- أبدًا.. مصلحة كده، أشوفلك معايا؟
- تعرف؟!
- آه.
- نص صباع.
- خمسين جنيه.
- هيقولى خمسين وستين.
- والله خمسين بس سيجارتين صح.
- لأ.. أنا أشوف شكله وبعدين نحكى فى السعر.
كان الرجل قد انتهى من وضع الأقفاص الفارغة تحت العربة وأخذ يتفحص محفظته، من ورائه كانت هناك فتاة بعباءة سوداء تقف خارج السنترال، وفى يدها هاتف تنظر فيه مرة وتضعه عند أذنيها مرة أخرى، وكانت وقفتها مثيرة بعض الشىء، ثم لاحظت أننى لست الوحيد الذى ينظر إليها، عندما سمعت صاحب الكاب وهو يقول بأعلى صوته:
- آه.. عايز أحطه فى التلاجه بقى وأدفيه.
ضحك صديقى وتبعته أنا الآخر بابتسامة، ثم قال الآخر:
- أنا مش عارف إيه اللى بيجرالهم فى رمضان؟.. أكيد فيه سر.
- المفروض العكس، والله عيب.
- عيب!
قالها وهو يضحك باستهزاء ورفع آخر ما فى كوب الشاى، وقال:
- العيب نزل فى الجدول ولا إيه يا درش.
كان قد ظهر من خلف كشك الكهرباء، ودون أن يرد عليه تناول منه الكوب وناوله زجاجة مياه «مشبّرة»، ثم أخذ باقى الأكواب واختفى ثانية.
قال صاحب الكاب كالعجوز الذى ينصح:
- رمضان مش عايز غير ألفين جنيه.. مصاريفك معاك.. ولا تخرج ولا تشتغل، وفى الأواخر تعتكف.
ثم رمى السيجارة أمامه بخطوات.
كان الرجل الذى أمامى قد اختفى، واستقرت العربة فى مكانها، وتجمّع حولها ثلاثة شباب، وكان هناك كُشك حديد يبعد عن الصيدلية بخطوات وموازيًا للعربة، استقرت أمامه خشبة جزارة، وكان يبدو جديدًا فى لونه الأبيض وحوافه الحمراء، ومن خلفه اكتشفت مسجدًا، تعرفت عليه بصعوبة، ولم أتأكد إلا عندما رأيت الباب الخشبى ذا الضلفتين، ولاحظت جزءًا من الجدار ذا اللون الأصفر والخطوط ذات اللون البنى، والتى تداخلت وظهرت كأنها قوالب من الطوب المتراصة فوق بعضها بعناية، ومن فوقه تطلعتُ للبلكونات والنوافذ التى انفتحت عن المراوح التى تعمل على آخرها.
ربت صديقى على فخذى اليُمنى وهو يمسك بيمينه هاتفه، ثم مال علىّ قائلًا:
- معاك حاجة على التليفون؟
- حاجة؟ حاجة إيه؟!
- حاجة زى اللى كنا بنسمعها فى أيام الجيش.
- حرام عليك إحنا فى أيام مفترجة.
- طب إيه رأيك؟.. وأشار لى بأن أنظر.
لم أيقن أنها جميلة لكنها كانت بيضاء، وزاد من بياضها الطرحة الحمراء التى التفت حول رأسها، وكانت طريقة مشيها فى العباءة شديدة السواد، والمطرزة عند الأكمام ومن الخلف، تنم عن شىء لا يجهله أحد.
قال صاحبه متأملًا وهو لا يحرك عينيه عنها:
- مش بقولكو فيه سر.
ثم أخرج علبة سجائره الزرقاء، وقدّم لى واحدة، لكنى امتنعت بداعى أنى لا أدخن، ثم مال علىّ قليلًا وقال:
- بجد؟
- نعم.
- خالص.. ولا أى حاجة تانى؟
هززت رأسى.
- ليه ياعم ده مرمى مش لاقى اللى يشربه؟
ضحكت.
ثم أعطاها لصديقى، وأخرج واحدة أخرى لصاحب الكاب.
- آه والله.. ربنا يخليلنا الثورة.
لم يعقّب أحد، وأخذوا يزفرون دخانهم ويتطلعون للأجسام الرائحة والغادية، وكانت أفواج البنات والنساء اللاتى يحملن الصاجات فوق رءوسهن ما زالت تروح وتغدو فى خطوات بطيئة، تنم عن الحرص الزائد على ما فوق رءوسهن.