رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ابن بلد.. جودة عبدالخالق: عملت فى رعي الأغنام.. واتجهت من دراسة الأدب إلى الاقتصاد عشان المجموع

جريدة الدستور

ترتيبى فى ثانوى ثانى الجمهورية.. وفقر «ميت العز» وراء بحثى عن العدالة الاجتماعية
أعمل على كتاب يحكى تجربتى فى الوزارة.. و«الإخوان مش بتوع ربنا»
لم أتأقلم على حياة القاهرة حتى الآن لكن سحرنى تعايش أقباط ومسلمى شبرا

سباح فى بحر الاقتصاد، عاشق للغة الأرقام، بدأ مسيرته ورحلة كفاحه من أعماق القرية المصرية، حاملًا بين ضلوعه طموحات شتى وأحلامًا لا تتوقف، حتى توّجها بجلوسه على مقعد «وزير التموين».
إنه الدكتور جودة عبدالخالق الذى يحكى، فى «الدستور»، فصولًا من سيرته ومسيرته، وكواليس ارتباطه بشريكة عمره الدكتورة كريمة كريم، بالإضافة إلى رحلته داخل بحر السياسة الجارف، وغير ذلك من الموضوعات.

■ بداية.. ما الصورة التى يرسمها جودة عبدالخالق عن طفولته فى الريف المصرى؟
- فى قريتى «ميت العز» بمحافظة الدقهلية كانت لى أيام، فتلك القرية منحها موقعها الجغرافى خصوصية فريدة، فهى كانت أشبه بجزيرة نيلية لوقوعها بين فرع «دمياط» و«الرياح التوفيقى»، وهو ما جعل مهنة الزراعة النشاط الوحيد الذى يمارسه أبناؤها.
وعند مولدى عام ١٩٤٢ وخلال اثنى عشر عامًا قضيتها هناك، تراكمت بذاكرتى مجموعة من المشاهد، أولها طبقة الطمى التى كانت أشبه بـ«تابلوه فنى ربانى»، تكونت نتيجة لتعرض القرية لفيضان سنوى، وهى الصورة التى كانت دائمًا ما تثير بداخلى التساؤل وتدعونى للتأمل والفكر.
المشهد الثانى، العالق هو الآخر بداخلى، يتمثل فى معالم الفقر بالقرية، فملامحه كانت شديدة وبادية على جميع الوجوه، وبارزة داخل البيوت باستثناء عائلة واحدة، وهو ما وضعنى فى تساؤل دائم مع نفسى: لماذا لا يكون أهل القرية جميعهم أغنياء؟، وربما من تلك اللحظة نشأت بداخلى فكرة البحث عن العدالة الاجتماعية.
■ تلك هى الصورة التى تتذكرها عن قريتك.. فماذا عن الحياة فى منزل الطفولة؟
- أولًا: وقبل أن أجيب، لا بد أن أوضح شيئًا مهمًا ألا وهو سبب تسميتى «جودة».. والدتى رزقها الله بمولود لكنه رحل عن الحياة بعد فترة وجيزة، وعندها نذرت نذرًا للرحمن أن تسمى مولودها التالى بذلك الاسم تيمنًا بشخص صالح يعرفه أهل القرية بلقب «الشيخ جودة»، وهو ما كان.
ثانيًا: لم يحصل أبى أو تنال أمى أى قدر من التعليم. فهما كانا أُميين، وبحكم الفقر الذى كنا نعانى منه رحل أبى للعمل فى مدينة «التل الكبير» حيث معسكرات الإنجليز، وعندها تكفلت أمى بتربيتى، وقد أدت المهمة على أكمل وجه وأتم صورة، بأن زرعت بداخلى العديد من القيم والأخلاقيات، أهمها بالطبع القناعة والرضا، ونزعت منى كل الصفات السيئة التى يتسبب فيها الفقر مثل الحقد والطمع، وتلك الصفات التى تأصلت بداخلى كانت طوق النجاة الذى تحصنت به بعد قدومى للقاهرة.
■ بالرغم من حالة الفقر التى كانت تعانيها أسرتك قررت إلحاقك بالتعليم.. فما الحكاية؟
- بحكم الظروف المعيشية الصعبة التى كنا نحياها، لم يضع والدى ومن بعده والدتى أى احتمال لتعليمى، لكن بناء على نصيحة من عمى الشيخ «متولى»، الذى لمح بعضًا من علامات النبوغ تظهر على شخصى، قرر الوالد إلحاقى بالأزهر.
■ لماذا لم تستمر فى التعليم الأزهرى مفضلًا التعليم العام عليه؟
- فى فترة الأربعينيات من القرن الماضى، كان التعليم الأزهرى هو الباب الملكى للإنجاز والسبيل الوحيد للترقى المجتمعى، ولهذا السبب التحقت بالأزهر، ولما كانت قريتى لا تمتلك معهدًا دينيًا، كان الحل الوحيد هو الالتحاق بأحد معاهد مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية القريبة من قريتنا.
خلال تلك الفترة كان من شروط الالتحاق تجاوز امتحان القبول، وبالفعل تحقق لى ما أريد، وعندما بدأت فى الانتظام بالدروس، طلب منى الشيخ «عبدالناصر» حفظ سورة «القلم»، وعندما بدأت بالفعل، وجدت صعوبة فى فهم بعض المعانى مثل قوله تعالى «سنَسِمُه على الخرطوم»، فطلبت منه أن يفسر لى تلك الكلمات حتى تساعدنى فى حفظها. لكن الشيخ «عبدالناصر» لم يُلقِ لطلبى بالًا وحدثنى بلهجة حادة، فرفضت طريقة معاملته وحدثته قائلًا: «مش حافظ»، فأجابنى: «هتحفظ ورجلك فوق رقبتك»، وعندما اشتد الصدام بيننا ضربنى، جاء موقفى برفض الاستمرار فى التعليم الأزهرى، وقلت: «هذا فراق بينى وبينه»، وعزمت على عدم العودة إليه مهما كانت المغريات.
وبصفة خاصة أعتز جدًا بتلك الواقعة، فهى أول مواجهة وصدام بينى وبين السلطة، جعلتنى دائم التفكير فى النهج السلطوى القائم على القمع والقهر، لأرفضه مبكرًا جدًا.
ولم أخطط لاحقًا لما حدث، فعندما تركت الأزهر بدأت العمل فى مهنة الزراعة ورعى الأغنام، وهى فترة من أخصب فترات حياتى، فتلك التجربة أسهمت فى تكوينى وصياغة تفكيرى بصورة كبيرة، وإليها يعود الفضل فى شغفى لاحقًا بالعمل السياسى.
فمن خلالهما تعلمت فكرة الغوص فى الطينة الطيبة لتلك البيئة، وكذلك التأمل فى الطبيعة الإنسانية والبشرية، التى أضافت لى خبرات أعتبرها كانت سابقة على حداثة سنى وقتها، لكن تبقى النقلة الكبرى التى جعلتنى أعود من جديد للدراسة هى اللحظة التى قررت فيها الأسرة حمل أمتعتها ومغادرة القرية والاستقرار فى القاهرة، لتبدأ من حينها تجربة مثيرة من حياتى.
■ القاهرة مدينة بلا قلب لا تفتح ذراعيها عادة مرحبة بالغرباء.. فكيف واجهت ذلك التحدى الجديد عليك وعلى أسرتك؟
- صدقنى حين أقول: «إلى الآن لم أتأقلم على الحياة فى القاهرة»، فهى مثلما قلت «مدينة بلا قلب». عندما قدمت إليها مع أسرتى مررت بفترة من التحولات الغريبة فدائمًا ما كنت أعقد مواجهة ومقارنة بين الحياة فى الريف والمعيشة فى القاهرة.
وعندما استقرت الأسرة فى حى شبرا، هالنى ذلك التعايش البديع بين الأقباط والمسلمين، بجانب «بنت الجيران» التى وقعت فى غرامها مبكرًا، وعلى الرغم من كونها تكبرنى بأعوام، كانت تمثل لى المجهول الذى بدأت فى اختراقه.
■ بعدما دارت الأيام دورتها.. لماذا فضلت دراسة علم الاقتصاد عن غيره من العلوم الأخرى؟
- دراستى للاقتصاد ولدت من رحم الصدفة، فكل تخطيطى كان قائمًا على دراسة الأدب الإنجليزى، لكن شاءت الأقدار أن تفتح كلية الاقتصاد أبوابها أمام الطلاب فى العام ١٩٦٠، وهى السنة التى حصلت فيها على الثانوية العامة، وكان ترتيبى الثانى حينها على القطر المصرى.
وقتها همس البعض فى أذنى بالنصيحة بالالتحاق بتلك الكلية الوليدة، وكانت حجتهم بأن كلية الآداب لا تتناسب مع تفوقى ومجموعى، وهو كان سببًا فى عدولى عنها، وأذكر أننى قدمت أوراقى بقسم «الإحصاء» قبل أن أتراجع عنه لاحقًا لصالح قسم «العلوم السياسية»، ثم استقر بى المطاف فى النهاية بقسم «الاقتصاد».
■ لنخص فى شأن إنسانى آخر.. كيف نشأت قصة الحب بينك وبين زوجتك الدكتورة كريمة كُريم؟
- فى سبتمبر من العام ١٩٦١ التحقت «كريمة» بكلية الاقتصاد، وكنت وقتها طالبًا بالفرقة الثانية، وفى أول مرة قابلتها قُلت لنفسى «هى دى البنت اللى هتجوزها»، وخلال الخمس سنوات التالية كنت أرسل إليها العديد من الرسائل، لكنها لم تكن تتجاوب معها بحكم شخصيتها الجادة جدًا.
ولهذا السبب قررت فى إحدى المرات نزع فتيل حبها المشتعل من قلبى، وصرف النظر نهائيًا عن الموضوع فلم أستطع، حتى حانت اللحظة التى فاتحتها أختها فى أمر ارتباطنا حين قالت لها: «جودة واخد باله منك»، لنبدأ من بعدها التجهيز لارتباطنا.
■ وهل وجدت اعتراضًا من جانب أسرتها بحكم الفوارق الاجتماعية بينكما؟
- عندما فكرت فى الارتباط بـ«كريمة» كانت بيننا سمات مشتركة أهمها الضمير والنوازع، وهو ما سهل العلاقة بيننا كثيرًا، ووقتما حدث الزواج بيننا، كان شغلى الشاغل حينها هو تخطى الفارق الاجتماعى بين أسرتى وأسرتها، فوالدها كان من أقطاب حزب «الوفد»، ووالدتها كانت تنتمى لعائلة ذات أصول مغربية تركية، لذا كنت أخشى جدًا من طريقة التعامل بين الأسرتين، لكنى أشهد بأن والدها نجح فى إحداث التوافق بين الجميع.
■ هناك ثقافة مصرية تقول «اللى خلف مامتش».. فلماذا اتخذتم قرار عدم الإنجاب؟
- هذا كان بناءً على طلب من «كريمة»، فعندما قررنا الارتباط والزواج صارحتنى بعدم رغبتها فى الإنجاب، ومن جانبى لم تكن لدىّ أدنى مشكلة فى ذلك، والسبب فى أنها عندى أفضل من الأولاد، وأى مفاضلة تكون هى طرفًا فيها، فالمؤكد أننى سأنحاز لها.
■ أصدرت مؤخرًا كتاب «حكاية مصرية» والذى تلقى الضوء من خلاله على سيرتك الذاتية.. فما الذى لم يتحدث جودة عبدالخالق عنه فى مؤلفه؟
- الحقيقة الكتاب يرصد فترة قصيرة جدًا من الواقع، وتحديدًا المدى الزمنى الواقع بين ميلاد زوجتى «كريمة كُريم» وحتى فترة حصولنا على الدكتوراه عام ١٩٧٤، ونرصد من خلاله قصة الزواج والارتباط بيننا، لكن تبقى فى النهاية ٤٥ عامًا ما زلت لم أتناولها.
وحاليًا أعمل على كتاب أسجل من خلاله تجربتى داخل الوزارة، وأكتبه بأقصى درجات الصراحة والصدق فى عرض الوقائع والأحداث، وأحاول من خلاله إيصال رسالة لشباب لمصر بأن الكد والعناء دائمًا فى النهاية يفرز النجاح، وبمجرد الانتهاء منه والاستقرار على اسمه سيكون فى الأسواق.
■ لماذا رفضت الاستمرار فى حكومة «الإخوان» أو التعاون معها؟
- عندما وقع الاختيار على شخصى لشغل منصب وزير التموين عقب ثورة ٢٥ يناير وخلال ٤ حكومات متعاقبة بدأت مع الفريق أحمد شفيق، وانتهت مع الدكتور كمال الجنزورى، أستطيع أن أقول إنى أديت مهمتى على قدر المستطاع قياسًا بالفترة الحرجة والمضطربة، وأكبر دليل على ذلك، اللقب الذى أطلقه الفقراء على رغيف الخبز عندما سموه «رغيف جودة». وأذكر أننى تقدمت باستقالتى إلى المجلس العسكرى الحاكم وقتها، اعتراضًا على الإعلان الدستورى، لكن المشير طنطاوى رفضها وقال لى: «لو كل الناس استقالت إنت مش هتستقيل»، وعندها قررت الاستمرار. لكن عندما قدم «الإخوان» بعد الثورة، تعاملوا مع الجميع بطريقة غير لائقة بدءًا من رئيس الوزراء مرورًا بالوزراء، وقد حدث صدام شهير بينى وبينهم فى مجلس الشعب منذ أن دعوا لما يعرف بـ«جمعة قندهار». وبحكم قراءتى المبكرة لهم دائمًا ما أقول: «ليسوا بتوع ربنا، إنما بتوع ربهم»، و«ربهم» المقصود هنا «جيوبهم»، هم ليس بينهم وبين نظام «مبارك» اختلاف جوهرى، وكل معرفتهم بالعدالة الاجتماعية هو حلها عن طريق الزكاة والصدقات، دون أن يكون هناك تدخل مجتمعى. وبالرغم من رغبتهم فى استمرارى بمنصبى، لكنى كنت أشعر أنهم جاءوا من أجل التشفى والصدام فقط لا غير، لذا قررت عدم السباحة فى بحرهم.
■ قبل أن ننهى الحديث.. هل ما زلت على تواصل مع قريتك؟
- علاقتى بقريتى لم تنقطع، فأعلم أخبارها بـ«حلوها ومرها»، وأحاول حل الصعوبات التى تواجه أهلها، وهم على تواصل دائم معى، وخلال الجمعة الثانية من شهر رمضان تلتقى العائلة من كل مكان فى منزلنا بالقرية، وأصبحت تلك عادة سنويًا، لا يمكن لأحد أن يتخلف عنها، وهو تقليد قلدتنا فيه العديد من عائلات القرية.
■ أخيرًا.. لو طلب منك توجيه رسالة إلى أحد، منْ يكون وما محتواها؟
- رسالتى ستكون إلى «كريمة كريم»، تلك المرأة التى وقعت فى غرامها من أول نظرة وأقول لها: «سعيد برفقتك فى رحلة الحياة.. ومحظوظ بوجودك معى».
■ ماذا أضاف علم الاقتصاد لشخصية جودة عبدالخالق؟
- الاقتصاد علم من أخطر العلوم الاجتماعية، وبحكم نشأتى فى بيئة فقيرة دائمًا كنت مهمومًا بفكرة الصراع بين الأقوياء والفقراء، ولهذا السبب دائمًا ما كانت تتخلق فى الذهن أسئلة ما حول العدالة الاجتماعية وضرورة الوصول لمجتمع متجانس، ولهذا فدراسة الاقتصاد جعلتنى دائم تسليط الضوء على أفكار معينة وملامسة أوتار حساسة داخل المجتمع. وبشكل عام فترتى داخل كلية الاقتصاد كانت مرحلة شديدة الثراء، بعدما كنت ضيفًا دائمًا على المكتبات أقرأ وأطالع أمهات الكتب، بجانب تتلمذى على أيدى مجموعة من عمالقة علم الاقتصاد أمثال الدكاترة زكى شافعى ورفعت المحجوب، والأخير وقع بينى وبينه صدام لا أنساه بعدما اختلفنا فى وجهات النظر حول أحد الموضوعات.