رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إنّا للحرية وإنّا إليها راجعون وراجعات


رغم أننى لا أميل كثيرًا إلى «المطلقات»، الراسخة، وأتردد كثيرًا قبل الحديث والدفاع عنها، إلا أن «الحرية»، استثناء وحيد أتشبث به، وليس يقلقنى جلوسها وحيدة على عرش المطلق الثابت فى حياتى.
أنا أؤمن بـ«الحرية»، إيمانًا مطلقًا، راسخًا، لا يشوبه شك، أو تردد، كما أؤمن بنفسى. بل إن إيمانى بالحرية، ربما يكون الإيمان الوحيد، الذى يزداد يقينًا، وزهوًا، مع مرور الزمن. ويصبح مع ذبول كل الأشياء، وردة فيحاء العبير، أعلقها على صدرى، وعلى خصلات شعرى.
أؤمن بـ«الحرية»، إيمانى بأن «الإنسان»، أهم من الفلوس، وأن «العدل»، هو الذى يجعل النظام السياسى، «جميلًا»، وأن «الثورة»، هى التى تجعل الشعوب، «نبيلة»، وأن «شجاعة» القول، والسلوك، هى ما تجعل المرأة «شريفة»، وما تجعل الرجل «شريفًا».
أؤمن بـ«الحرية»، مثلما أؤمن، بأن الموسيقى، سر من أسرار الكون. ومثلما أؤمن بأن «الألم»، هو أصل الحياة. وكما أؤمن بأن «الفقر»، موجود، لأننا نأخذ أكثر من احتياجنا.
أؤمن بـ«الحرية»، مثل إيمانى بأن «رق الحبيب»، «طفرة» جينية، فى تاريخ الألحان.. وأن الحضارة التى تقطع من أجساد وعقول النساء، تحمل داخلها بذور الفناء.. ومثل إيمانى، بأن «العمر» الحقيقى الذى نعيشه، لا يرتبط بالرقم القومى، وزحف التجاعيد.
أؤمن بـ«الحرية»، كما أؤمن، بأننا لا نستمتع بالحياة، إلا إذا تصالحنا مع «الموت».. وأنه من العار، أن نصل إلى سنة ٢٠١٩، دون أن يصل الماء النقى، إلى أناس، يقتسمون معنا، الجنسية المصرية.
أؤمن بالحرية، مثلما أؤمن باستحالة انتمائى لهذا العالم، بكل أفكاره، وأهدافه، ومخاوفه، وعقائده، ودمويته، وعنصريته، وذكوريته، وغروره، وغطرسته، وعنجهيته، وحماقاته، وآلامه، وعذاباته، وعبثيته.
إيمانى بالحرية، كإيمانى بأننى جئت إلى الحياة، من أجل رجل واحد، لن يعود من قتل غادر، شاركت بحسن نية فيه، وذهب مرتكبوه بسوء نية دون عقاب. منحنى روحه، وقلبه، وعمره القصير، إلى حد الفناء دون شرط أو قيد. يشبهنى، يكملنى، إلى حد الجنون. وإننى سأموت على سريرى، من إحساسى بالذنب، وأنا قابضة على صورته، مستمعة إلى أغنياته، وألحانه.
أرى «الحرية»، مصيرًا محتمًا، على البشرية كلها الوصول إليه. وهى لنا بـ«المرصاد»، تراقب، وتسجل، وتقرر، وتخطط. قد نتأخر.. قد نتعثر.. قد نتوه. لكن المسيرة محسومة مسبقًا، لصالح «الحرية».
فـ«كل منْ عليها حر».. و«كل نفس ذائقة الحرية».. و«إنّا للحرية وإنّا إليها راجعون وراجعات». إذن التخلى عن الحرية، هكذا أؤمن، ليس ضعفًا، أو يأسًا، أو انهزامية، أو لا مبالاة. وإنما «خيانة»، لا بد من محاكمة وعقاب منْ ارتكبها، فى حق نفسه، وفى حق الحياة. والخيانة كما نعرف، جريمة كبرى، إن استشرت تصبح وباء خطيرًا على الجميع. والسؤال، من أين يأتى، الشعب، بحريته؟.
بكل بساطة، الشعب الحر، يساوى مجموع، نساء أحرار.. رجال أحرار + أطفال أحرار. حينما ننطق فى مجتمعاتنا، بكلمة «الحرية»، ننتفض، ونتحفز ونتشنج. نسأل أول ما نسأل: «يعنى إيه حرية».. «مافيش حرية مطلقة».. «وإيه حدود وسقف الحرية دى».. «وعايزين الحرية دى إن شاء الله عشان تعملوا بيها إيه».. «عايزين حرية انحلال زى الغرب الكافر».. وغيرها من الإدانات الحمقاء التى ترادف بين «الحرية» وقلة الأدب، وقلة الحياء، وقلة رجاحة العقل ونظافة القلب.
مع أن كل الإدانات والتخوفات الأخلاقية، لا بد أن تنصب على «القهر»، وليس على «الحرية». وليس من المفروض، وليس من الطبيعى، أن نسأل عن حدود الحرية، ولكن عن حدود القهر. والذى يخيفنا المفروض أن يكون القيود، وليس التحرر. هى من نتاج «أخلاق الحرية». كل فضيلة يمكن أن نتصورها، وكل رذيلة، يمكن أن نتوقعها، هى إرث مباشر أو موروث من أخلاق القهر.
الحرية تصحح نفسها بالتجربة، والمعرفة المتراكمة والشجاعة والتقدم والنور والجمال، والحساسية للحقوق الأخلاقية للآخرين. وبالتالى تنتج «المناعة الأخلاقية». بينما القهر، يعيد إنتاج المزيد من الجهل، والخوف، والتأخر، والظلام، والقبح. وبالتالى يقود إلى الهشاشة الأخلاقية.
وإذا كنا اليوم نتطلع إلى دستور جديد ٢٠١٩، فلست أطلب شيئًا، إلا أن يصبح فعلًا، فى كل نصوصه، وبنوده، وفقراته، السفينة التى تعرف جيدًا الطريق إلى شاطئ الحرية، ولا تخاف شدة الأمواج، أو هجوم القراصنة. لأنها السفينة الوحيدة المحمية من الحياة نفسها.
من بستان قصائدى
أشرد كيف هذا العالم.. يدوس بالأحذية المهترئة المتسخة
على محاسنى وفضائلى وميزاتى.. وكل جميل يكمن بذاتى
كيف أعيش فى عالم.. لا يجرى إلا وراء
متفجرات الأنوثة.. عشيقات نجوم الأوسكار
ممسوحات الشخصية.. ولاعنات الوحدة والعنوسة.