رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أراجوز خارج النص

جريدة الدستور



كان مسجيًا بجسده الدافئ المحشو بالقش المتعاضد ببعض رقع الأحلام الزرقاء المتسخة ببقع الواقع الداكنة، التى لم تخلو من بضعة طيور جارحة تنهش حبيبات القمح من رأسه، وبعض فراغات حكايات باهتة كانت تملى عليه، فيرددها بدون إحساس كالببغاء حتى صار يتلعثم عند النطق بها، ليدرك فى النهاية أن لغته الأصل مدفونة فى غيابات الداخل وليس فى فراغ الخارج، كان مكبلًا بقيود بدن وهمية موصدة فى أغلال مصنعة، فبدا كجثة فرعونية تطل بعينيها الزجاجيتين البارقة إلى النجوم من تحت غطائها الملىء بثقوب الغيوم، على مشهد انسحاب الشمس وهى تتلاشى رويدًا رويدًا وتذوب بين زحام خطوات المشعين للضوء، وفى عزلته كان يقبع فوق خزانة خشبية قديمة، تتوسط غرفة حقيرة، مستندة على وعاء فخارى عميق، يتدل منها حبل «حابول» سميك ينتهى بطوق يحكم عنق عنزة صغيرة سوداء، وقد تناثرت حوله بعض قطع الأقمشة المتسخة ذات النتوءات، «الكسوة» كما كان على الأرجح يفضل صاحبه أن يطلق عليها، وفى القلب منها كانت ملقاة صفارة حمراء كورقة عصف بها الخريف غدرًا لم تحمل إلا روحًا بلاستيكية باهتة ونبضًا متصلًا بالفناء، وقد يبدو أن الروائح النفاذة المنبعثة من هذه الأقمشة العالق بها بعض عبق أحلام الأطفال الصغار وبعض روائح المرايل والكراريس والأقلام الرصاص، الذين كانوا يصطفون حول صولجان ﻛﻮﺍﻟﻴﺴﻪ السوداء بعد خروجهم من المدارس للاستماع إلى حكايته المكررة وبعض من بقايا عرق صاحبه، قد نسجت حول روحه خيوط المأساة، ليجد أن أبسط حقوقه لم تعد كونها أحلامًا وأمانى ورغبات مكبوتة، ويصبح التفكير بها جريمة، والبوح حرامًا، وفى لحظة فاصلة، يبدو أنه قد اتخذ قرارًا بمواجهة الموت، فقرر أن يكون هو البطل فى هذه اللحظات وليس واقعه، سواءً توج حلم الحياة بالنجاح أو بالإخفاق، واقتربت يدا صاحبه من الخزانة الخشبية لتحملها استعدادًا لبدء الحفل وما أن دخلا الكواليس ورفع صاحبه يديه التى تمتطيه حتى أطل بوجهه الخشبى الملطخ بدم الألوان، وهو يدعك عينيه الزجاجيتين بقوة، من وراء نافذة الكواليس، التى اعتاد امتطاها آلاف المرات كفارس على صهوة حصان يسلم الكأس للنصر، إلا أنه فى هذه الأثناء بدا على غير المعتاد، كان يبدو كمن يلقى نظرة أخيرة علي الجمع المحتشد بين بكاء وصمت، وفجأة انطلق بالصراخ بينما كان يغمض عينيه من شدة الألم، ثم أدار رأسه، ثم أطلق صرخته الأثيرة: «أيها السادة اخلعوا الأقنعة.. أقنعتكم باتت متعبة من وجوهكم الزائفة، لقد اختارت الصمت لساعات، لأيام، لسنين، على أمل أن أواجهكم بحقيقتكم، فيما يتصل بالحقيقة، فجميعكم مهرجون، جميعكم لم تهتموا إلا بملابسى المخترقة، ونبرة صوتى المضحكة، لكن لم يهتم بى أحد ككيان، استباحت قهقهات ضحكاتكم الماجنة أنات وجعى، ولكن أقول لكم سيبقى الصدق بداخلى أقوى من عتاد كذبكم، سيبقى الحب نابضًا بقلبى الخشبى يضخ فى حقول حقدكم، سأبقى أنا الصوت الصارخ بحقيقتكم.