رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من حفيد محجوب عبدالدايم إلى نجيب محفوظ

جريدة الدستور

اسمى «سعد سرحان»، وجدى وهو محجوب عبدالدايم، الذى وصف نفسه بمعادلة «الدين+ العلم+ الفلسفة+ الأخلاق= طظ»، جدى هذا مشهور باللا مبالاة وفساد الأخلاق والذى كان يعد مرآة صادقة للمجتمع الذى كان يعيش فيه.. أنت سيدى وصفت جدى بقولك: «كان صاحب فلسفة استعارها من عقول مختلفة كما شاء هواه، وفلسفة الحرية كما يفهمها هو، و(طظ) أصدق شعار لها هى التحرر من كل شىء، من القيم والمثل والعقائد والمبادئ، من التراث الاجتماعى عامة!».
ولذلك بدا من الجهالة والحمق أن يقف مبدأ أو قيمة حجر عثرة فى سبيل نفسه وسعادتها، وإذا كان العلم هو الذى هيأ له التحرر من الأوهام، فليس يعنى هذا أن يؤمن به، أو أن يهبه حياته، ولكن حسبه أن يستغله من رجال الدين، وإنما غايته فى دنياه: اللذة والقوة بأيسر السبل والوسائل ودون مراعاة لخلق أو دين أو فضيلة، وهذا الوصف ينطبق على ابن محجوب عبدالدايم، والذى اسمه «سرحان».
لماذا سرحان؟ لا أدرى، ولم أسأل أبى فى تلك النقطة، لأن هدف أبى كان اللذة بأى شكل وبأى طريقة، وقد مات فى مدينة السلوم، حيث كان هناك من أجل صفقة دخان معسل وحشيش ومية صفرا.. وقع فى كمين نصبته له الشرطة، فبادر وأطلق النار عليهم فكان نصيبه أكثر من إحدى عشرة طلقة، ومات أبى وهو يتمنى أن يعرف ابن مَنْ هو: محجوب عبدالدايم أم ابن البيه المدير؟.
أظن، وبعض الظن صدق، أن أبى «سرحان» أضاع عمره باحثًا عن إجابة لهذا السؤال السراب، حتى إنى فى إحدى المرات قلت له فى غضب بعد أن بكيت على منظره بكاءً يقطع القلب: «هو يعنى لو عرفت إنت ابن مين إيه اللى هيجد عليك؟.. هتفضل زى ما انت.. فقير معدم ولا تبان عليك النعمة»، ويبدو أن جدى محجوب عبدالدايم كان يملك حدسًا قويًا عندما أطلق عليك هذا الاسم «سرحان»، فسوف تبقى هكذا «سرحان» إلى الأبد. أجد أبى ينظر إلىّ فى حقد وغضب، والمذلة تبدو على وجهه، فانحنيت عليه وقبّلته فى وجهه، ثم اعتدلت وجلست أمامه، وقلت له: «أبى، انسى الماضى.. انسى محجوب وعمايله المنيلة اللى ما تشرفش حتى إبليس اللى مدحه وأخذه مثلًا أعلى، وتذكر من الآن فصاعدًا أنك شخص آخر، شخص يحمل صفات مختلفة واسمًا آخر هو سرحان».
ما كدت أنهى الكلمة حتى دخل أبى فى نوبة بكاء، لماذا؟ لا أدرى، هل لأنه ابن محجوب عبدالدايم، أم لأنه سرحان؟، وخرجت من عنده، ذهبت إلى بيتى الملاصق لبيت أبى، وفى الصباح عرفت من أمى الحاجة أن أبى «سرحان» سافر إلى السلوم من أجل البضاعة، ذهب وترك أثر بكائه يعكر صفو حياتى.. حاولت أن أجرجر أمى فى الكلام عن جدى محجوب، وجدتى، لكنها فى عنف وشدة قالت: «داهية لا ترجعه، ياله أهو راح مطرح ما راح.. وأهو إحنا ارتحنا منه ومن عمايله المنيلة، يا ابنى جدك ده مالوش تانى خلقة زمانه».
أبحلق فى جدتى وأقول بسرعة: «يعنى المعلم سيد مش زيه؟!»، والمعلم سيد رجل يمكن أن تصفه بأنه تفوق على جدى فى النذالة، والخسة، والجشع، وحب النفس، فقد فعل كل شىء من أجل المال، لدرجة أنه عمل وسهّل إقامة علاقة «ما» بين أبيه وزوجته، المرأة التى تعلم أنها فاتنة، من أجل أن يتنازل أبوه الغنى عن ثروته له وحده شراء وبيعًا، ويحرم جميع أخوته الذكور والبنات من حقهم الشرعى فى الميراث، وقد وقّع الرجل على عقد البيع لابنه بعد أن أنهى جولة مع المرأة، حيث سحبت من على «الكمودينو» حبة فياجرا وكوب ماء وقدمتها للرجل، فأخذها الرجل وهو سعيد للغاية، ثم وبسرعة خاطفة قدمت المرأة ورقة وقلمًا وقالت وهى تميل على الرجل، بل بكل جسدها العارى: «إمضة بسيطة لو سمحت يا حبيبى»، ووقّع الرجل على عقد ببيع كل ثروته وهو يعلم وسعيد بكل ما يفعله، أخذت المرأة العقد والقلم ورفعت حرف المرتبة ووضعت العقد والرجل ينظر إلى ظهرها العارى ويحدق طويلًا إلى مؤخرتها التى حركتها وهى تعلم أنه يحدق فيها، وقبل أن تعتدل كان قد هجم عليها ولم يتركها إلا بالشديد القوى، حيث أحس بهبوط يكاد يقتله، ابتعد عن المرأة، وقال لها فى ضعف: «إلحقينى يا فاطمة».
وقفت فاطمة وأخذت ترتدى ملابسها.. والرجل يعانى وعملت جاهدة على أن تساعد الرجل فى أن يرتدى ملابسه، وبذلت مجهودًا خرافيًا فى أن تنقل الرجل إلى حجرته كى ينام على السرير قبل أن تنادى على أولاده؛ لكى ينقذوا أباهم.. هو الذى طلب هذا من فاطمة، التى كادت أن تخرج روحها على أن أوصلت المعلم سيد أو الحاج سيد إلى سريره، ما إن اطمأن الرجل على أنه نائم فى فراشه حتى استسلم تمامًا بخروج روحه، وفاطمة تنظر إليه والابتسامة على شفتيها، وما إن أغمض الرجل عينيه حتى عادت إلى حجرتها، وأخذت العقد وقبّلته، ثم وضعته فى درج المكتب الذى به ذهبها، وبعد أن اطمأنت لموضع العقد، ذهبت إلى الحمام وأخذت دشًا ساخنًا، وعادت إلى فراشها ونامت كما الملائكة.. فى الصباح ارتفع الصراخ والعويل فى البيت والشارع!.
كل ما قالته جدتى هو: «اتهد وامشى من وشى لأخلى نهارك زى وشك».
وقبل أن ينتهى اليوم كان الخبر قد أتى، بأن أبى قُتل برصاص الشرطة فى السلوم.. أهو أبى مات موتة شريفة، أحسن من غيره.
سيدى الشيخ نجيب محفوظ، امبارح كنت فى الانتخابات وذهلت مما رأيت واحترت ما بين الأهلى والزمالك.. معلش، أقصد الحكومة والإخوان، لكنى فجأة تذكرت ما قلته وأنت تروى سيرة أبى فى القاهرة الجديدة: «النشل فن سحرى والنشال يملك ما فى جيوب الناس جميعًا، وقد عرف سادة هذا البلد مغزى هذه الحكمة»، حيث وجدت أن الكل يود أن ينشل صوتى لكى يضعه فى صندوقه.. خرجت من مولد الانتخابات وأنا أردد قولك وأنت تنهى أهم ما كُتب فى الأدب العربى كله «أولاد حارتنا»: «... لكن الناس تحملوا البغى فى جَلَد، ولاذوا بالصبر واستمسكوا بالأمل، وكانوا كلما ضربهم العسف قالوا: لا بد للظلم من آخر ولليل من نهار، ورأينا فى حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب».
أما حكايتى أنا فهى الآن تخرج كثيرًا عن سيرتى جدى وأبى، لكن الذى جدّ ويجب أن أذكره، فى صباح يوم الجمعة الموافق الثامن والعشرين من يناير، توجهت إلى ميدان التحرير بعدما علمت من جار لى أن هناك مجموعة من شباب مصر الذى نجا من شرب البانجو، وتعاطى وطنية، خرج وجلس فى ميدان التحرير من أجل شىء هو يريده.
خرجت من حلمية الزيتون، الحى الذى أسكن فيه، وأخذتها سيرًا على الأقدام لأن ما معى من مال لا يتعدى ثلاثة جنيهات، وكلما تحركت فى شارع سليم الأول أحسست لأول مرة فى حياتى بأن الهواء الآتى من أول الشارع هواء منعش على غير العادة، والناس أمامى وخلفى وحولى تقريبًا لديهم نفس الشعور: هواء جديد يدخل الصدور، وأجدنى أسرع الخطى، بل إنى أحس بأن قدمى التى أرفعها من فوق الأسفلت لا تعود ثانية إلى الأسفلت تقريبًا، أنا طائر فى الهواء، وفجأة أجدنى واقفًا فى ميدان التحرير، وزهور مصر واقفة شاخصة ناحية الأمل، تلك الزهور التى تفتحت من قلب محنة اليأس الذى ولدوا وعاشوا فى رحابه.
تجولت فى أول الأمر لكى أرى ما يحدث، وليس من أجل المشاركة، فأنا ليست لى مطالب فى تلك الدنيا التى دخلتها غصبًا عنى، فأبى كان فقيرًا رغم أنه حاول أن يحسّن من وضعه، وعمل فى المواد المخدرة، وقد حصل ما حصل له، لكن الشىء الوحيد الذى كان أبى ناجحًا فيه هو كثرة الخلفة.. ليه بيخلف كتير ودخله يمكن أن نوصفه بأنه لا يوجد دخل له، ولم يوجد فى حياته شىء يفرحه إلا عملية الخلفة، أما التربية فكانت لا تعنيه البتة.
تحركت فى الميدان وأنا أحادى المزاج، وفجأة وجدت قلبى يأكلنى وأقول والله فكرة، وأخذت أفعل كما يفعل شباب مصر تكفيرًا عن سيئات جدى محجوب عبدالدايم وأبى، وبقيت فى الميدان حتى أمسكت «المقشة» لأنظف أرض الميدان بعد ليلة حاسمة.
وقفت بعد تلك الليلة بما ألصقوه بى وأشاعوه عنى، بأنى من أعاذ إلى نائب مجلس الشعب بأن يتهجم عليكَ ويقول ما قال وكأنه لم يقرأ أدبًا قط.
قُل لى ماذا أفعل.. هل آتى إليك وأنام بجوارك؟ أم أثور وأغضب وأحاول أن أوضح وأقول، ولا أمل من ذلك أبدًا؟.