رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البناء الفكري قبل المواجهة الأمنية


يطرح إرهابي الدرب الأحمر، الذي فجر نفسه، فمات كافرًا، وارتقى، بسبب قنبلته أو حزامه الناسف، ثلاثة من رجال الأمن الوطني، شهداءً في سبيل الواجب الذي فرض عليهم أن يمنعوا هذا الأحمق عن الاستمرار في تفجيراته، وإشاعة الرعب بين جموع الشعب المصري، حتى ولو كان الثمن حياتهم، وتركهم أطفال أبرياء، يتامى صغارًا، وزوجات أرامل، وأمهات ثكالى.. أقول: يفتح هلاك هذا الإرهابي بابًا من الفكر، حول دوافع مثل هذا الإرهابي، التي لم تعد قاصرة على الهروب من واقع اقتصادي مرير، وظروف حياتية صعبة، يهرب الإرهابي منها، في ظنه، بتفجير نفسه واغتيال حياة غيره، عله يلقى في آخرته، ما حُرم منه في الدنيا.. فينعم بالحور العين، والجنات المعروشات.
فهذا الذي فجر نفسه، ومعه رجال أبرياء، كان ينعم بالراحة في معيشته، ويحظى بوضع اقتصادي لا بأس، مصدره أب له مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، يُرسل له من وقت لآخر، ما يكفيه، ويدفع عنه غائلة الحاجة التي يمكن أن تُوقعه في يد من يستغل حاجته، ويدفع به إلى أتون الإرهاب الذي لا يرحم.. وهنا، تنكشف أمام أعيننا حقيقة، أن من يذهب بقوة نحو ما يعتنقه مثل هؤلاء الإرهابيون من فكر، فرض عزلة هذا الإرهابي وغيره عن الناس، وامتناعه عن التحدث مع أحد من جيرانه أو أقاربه الذين يسكنون في نفس الشارع، ويخفي وجهه دائمًا ولا يشتري مستلزماته من الحي الذي يقطن به، فيما يشبه تكفير من حوله، واعتزالهم.. هو أخطر ما في القضية.. الفكر الذي لا بد له من فكر يدحضه، ويمنع تسلله إلى الشباب، والانتشار فيما بينهم، والتأثير فيهم، والوقوع بهم، في يد من يستغلونهم، ويصبحوا معهم، كالميت بين يدي مُغسله، يُقلبه كيف شاء، ودفعهم إلى مناهضة المجتمع الذي يعيشون فيه، بل وتكفيره، واستسهال الموت على الحياة، بل الترحيب بما يعتبرونه تقربًا إلى الله، والله برئ مما يفعلون.
إذا.. علينا التفتيش في الأفكار، قبل مجتمعات الفقر والعوز، وإن كانت هي الأخرى سببًا من أسباب التوريط والسيطرة، التي تنتقي بها جماعات التطرف والإرهاب عناصرها، من أولئك الذين يحلمون بالتحرر مما هم فيه من فقر وحاجة، والحصول على مغانم الدنيا، وحسن ثواب الآخرة، إن هم ماتوا، أو هلكوا في عمليات إرهابية، يتقدمون إليها، كأنما يسعون إلى رحلة سياحية.. علينا أن نبحث فيما يستخدمه هؤلاء المُجندون لشبابنا، ويجعلون الشاب الغر، مستعذبًا الموت على الحياة، وتلك مهمة لا تندرج تحت المواجهات الأمنية، بل إعادة صياغة وعي شبابنا، بما يردهم إلى جادة الطريق، ويكونوا فاعلين في مجتمعاتهم، ويحمي غيرهم من الوقوع، فيما وقع فيه من سبقوهم.
وليعلم أولي الأمر، أن هذه مهمة مجتمعية شاملة، لا يقوم بها فرد أو مؤسسة بعينها، بل هي مسئولية كل الجهات التي تتوجه للفرد، ببناء وعيه وتهيأة وجدانه، وتُعلي فيه قيم الإنسانية، ومعاني الولاء والانتماء لبلده.. ترشده إلى ما ينفعه، في دينه ودنياه، وتجعل منه إنسانًا محبًا للحياة، مادام في طاعة الله، وفي كنف بلد يحبها ويعتز بالانتماء إليها.. وعكس ذلك يدمر ويُخرب.. إن أي شخص لديه لحية وكتاب فتاوى وأحاديث نبوية، حتى لو كانت ضعيفة وغير صحيحة، يمكنه أن يُدمر أمة باكملها، وما جرى في سوريا والعراق وليبيا، خير مثال هل ذلك.. أليست رؤية الملائكة تقاتل إلى جانب ثوار سوريا، هي من وهم الفتاوى التي دفعت مئات الآلاف من الشباب العربي والإسلامي كي يذهبون إلى سوريا لقتل شعبها وتدميرها؟!.
وغني عن القول، أن مدارسنا مازالت ذاخرة بالمُعلمين المنتين إلى جماعات إخوانية وسلفية، يعبثون بعقول أطفالنا منذ نعومة اظفارهم، بلا حسيب أو رقيب.. تسللوا إلي مواقعهم في صمت وخفاء، لا يعلم عنهم أحد شيئًا.. وحتى الجامعة، وإن كانت تُخرج شابًا مُتعلمًا، فإنها لا تكون وراء بناء إنسان تم تثقيفه وصياغة وعيه وتشكيل وجدانه بالقيم الاجتماعية والدينية والإنسانية الكفيلة بحمايته من الانخراط في سلك جماعات، اتخذت من الدين ستارًا لأغراضها السياسية وأهدافها الدموية، التي يبتغون منها الوصول إلى التمكين، والسيطرة على المجتمع، من خلال قوته الفاعلة، ألا وهي الشباب.
لقد قال الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، أن سيد قطب كان ماسونيًا، وكذلك كثير من قيادات جماعة الإخوان، وما انخراط قطب، والقطبيين من بعده في سلك العنف إلا تعبير عن منهجهم الماسوني، الذي تم استيعابهم له والولوج إليه، من خلال تجنيدهم بالولايات المتحدة الأمريكية، المقر الرئيسي الحالي للماسونية العالمية.. فأمريكا لا تريد دولًا ذات قرار سيادي، وبدون ديون خارجية وتعتمد على نفسها في كل شيء، وتقول لا لواشنطن وتقف ضد مشاريعها في المنطقة، ولذلك سخرت كل شيء لخدمة مشروع تدمير المنطقة العربية، وتقزيم دورها وادخالها في دوامة الفوضى والديون الدولية وإعادة الإعمار بعد الحروب، التي لم تكن بمخطط ماسوني وحسب، بل جاءت مخططًا اقتصاديًا سياسيًا، بأدوات دينية طائفية، والآن قومية، من منطقتنا، لاننا شعوب تم صياغة بعض أبنائها حتى يكونوا جاهزين للاقتتال في أي لحظة.. عندما أتت داعش إلى المنطقة، واحتلت بعض المدن، وصل الإرهاب الفكري والديني والأخلاقي إلى ذروته.. شاهدنا عودة البشرية أكثر من ألف وخمسمائة سنة إلى الوراء، إلى عصر ما قبل الجاهلية.. دمرونا، وشوهوا صورة الإسلام!.
ما أشد حاجتنا في هذا الزمن إلى إحكام الرقابة على الأبناء، ولكن باتزان، ومن غير إشعار بالتجسس أو الشك والريبة، وإنما رقابةٌ أشبه ما تكون بالسياج للولد حتى لا يقع فريسةً للهوى والتقليد، وتكون هذه الوقاية بتربيتهم وتعليمهم وتوجيههم، وإياكم والفراغ، فإذا فرغَ المرء، ولم يجد ما يفعله، فسيكون وقوعه في الانحراف أسهل ممّن يشغل وقته بما يفيد، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفراغُ).. ولتنهض كل مؤسسة تربوية وتعليمية وتثقيفية ودعوية بمهامها، حماية للمجتمع، وإنقاذًا لأبنائه من الضياع، فمازال الوقت بين أيدينا، وما انكسر بعضه، يمكن جبر بعضه الآخر.. المهم أن نبدأ بفكر وتخطيط، يقودنا يومًا إلى مجتمع آمن وصالح، يستحق الحياة، ويكون صاحب حضارة، وقديمًا قالوا، إن الحضارة إنسان، قبل أن تكون بنيان.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.