رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السكك الحضيض



أستأذن الكاتبة الكبيرة الأستاذة «سناء البيسى» فى أن أستعير منها التعبير البليغ الذى صكّته فى «تغريدة» أهرام السبت الماضى، لوصف أحوال سككنا الحديدية وما آلت إليه مع انفجار قطار «محطة مصر» الأخير، الذى أدمى القلب وأوجع الوجدان بعد أن تحولت من «السكك الحديد» إلى «السكك الحضيض»، فلا يوجد ما يمكن أن يوصف به حال هذا المرفق بالغ الحيوية لبلدنا وناسنا، الذى كان له «شنّة ورنّة» فى الماضى، وكان الكل يشهد على رقيه وجماله وأناقة وكفاءة العاملين على خدمة الجمهور فيه، إلا هذا الوصف الجامع المانع، للأسف الشديد.
أنا أعلم أن الكلام فى هذا الموضوع، باعتباره موضوع الساعة، سيستمر يشغل بالنا ولن يتوقف لفترة من الزمن، حتى يقع ما يُغَطِّى على أصدائه، ولعدة أسباب منها الصدمة التى أحدثتها الكارثة بسبب رعونة السائقين واستهتارهم، وما نجم عنها من خسائر بشرية فادحة ومادية مكلفة، وأيضًا لأن وضعية هذا المرفق تهم عشرات الملايين من المواطنين يستخدمونه بلا انقطاع للتنقل والحركة، كذلك لأن هذه الكارثة، التى نرجو ألا تتكرر، ليست الأخيرة. فقد تعوَّدنا كل بضعة شهور على مأساة لا تقل فداحة، يروح ضحيتها العشرات وربما المئات من مواطنينا، فى موت مجانى لا قيمة له ولا مبرر، والأهم أن مثل هذه الكوارث العشوائية يضرب كل محاولات نهوض وطننا وانطلاقته، ويصيب سمعته واستقراره وأمنه فى الصميم، ثم إنه، ضمن أسباب أخرى، وهو الأخطر، يؤذى «الروح العامة» للناس، ويصيبهم بإحباط معنوى شديد، ويشككهم فى جدوى أى حديث عن الإصلاح، ويُعيدنا إلى نقطة الصفر وكأننا ندور فى حلقة مفرغة.
ومن المؤكد أن التحقيق فى هذه الواقعة سيضع أيدينا على المتسببين فى الفاجعة، ويُخضع للاستجواب الأشخاص المُتهمين مباشرة فى الحادث: «سائقى الجرارين، وعاملى المراقبة والتحويلة»، باعتبارهم «المسئولين عن كارثة محطة مصر»، كما نشرت الصحف خلال الأيام الماضية، وهذ أمر طبيعى، وهم يستحقون بالفعل المساءلة والعقاب، جراء استهتارهم ورعونتهم.
لكن من المؤكد أنهم ليسوا وحدهم الذين يجب أن يُحاكموا لاشتراكهم الفعلى فى هذه الجريمة الشنيعة، وإذا اقتصر الوضع على إدانتهم والقصاص منهم أو حتى الانتقام فلن يفيد فى علاج جذور الكارثة شيئًا، وقد حدث عشرات المرات من قبل أن تمت معاقبة السائقين وعُمّال التحويلة والإشارات، دون أن يحول ذلك من تكرار الوقائع، وبعضها بحذافيره كما يقولون. فالمشكلة أعمق وتحتاج إلى علاج أنجع.
فقد نشرت «الأهرام» ٢ مارس الماضى: كشف «التقرير الفنى حول حادث محطة مصر» عن أن الملف المهنى والوظيفى لسائق الجرار ٢٣٠٥ يحتوى على مخالفات مهنية وأخلاقية، تزيد على عشرين مخالفة للوائح المنظمة للتشغيل، من بينها تعاطى المخدرات».
والسؤال الذى يطرح نفسه بداهة هنا: كيف سمحت إدارة هذا المرفق الحساس، لسائق جرار قطار يحتوى سجله الوظيفى على هذه المخالفات المهنية والأخلاقـية الجسيمة المتكررة ومنها إدمان تعاطى المخدرات، بقيادة قطار كبير ينقل مئات المواطنين وأمتعتهم يوميًا، فى رحلة طولها مئات الكيلومترات، دون أن تتوقع، مثلًا، أن يؤدى تعاطيه المخدرات إلى إفقاده التوازن والقدرة على التحكم فى حركة القطار، والتصرف بحكمة فى أى ظرف طارئ، تحتاج مواجهته إلى توافر الوعى وسرعة البديهة وحسن التصرف؟ وماذا كانت إدارة هذا المرفق تنتظر حتى تعفى هذا السائق من مهمة قتل وإصابة عشرات الأبرياء، وتكبيد الوطن، قبل المرفق، هذه الخسائر الفادحة؟.
أسئلة محددة لا بد من البحث عن إجاباتها الصادقة، فالمجرم الحقيقى فى هذه الجريمة، ليس وحده من قاد القطار الكارثة، وإنما أيضًًا من تغاضى عن استعداده الموضوعى لارتكابها.