رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السبق

جريدة الدستور

يذهب كل أحد إلى سباق الخيل تلك العادة التى لم يغيرها أبدًا لسنوات طويلة ينسى كل شىء، موعد ذهابه للطبيب، أولاده فى أى سنة دراسية، هل ستتم ترقيته أم لا؟.. لكنه لن ينسى أبدًا ذلك الموعد، موعد سباق الخيل.. لن يلفت نظرك إطلاقًا فملابسه الرثة وحذائه القديم وشعره الأبيض الذى يكاد ينسى مقص الحلاق، لكن ما سيجعلك تنظر إليه هو الجريدة الصغيرة، جريدة «السبق»، التى يخرج جزء منها من فوق الجيب الأيمن للبالطو الذى يلبسه دائمًا، صيفًا وشتاءً، ينتهز أى وقت فراغ موجود أمامه ليضع خطوطًا بالقلم الرصاص فوق أسماء الخيول التى يتوقع أنها ستكسب، والخيول التى يتفاءل بأسمائها أو اسم الجوكى الذى يركبها، الشىء الآخر الحريص عليه دائمًا هو اشتراكه فى مسابقات اليانصيب، إلا أنها اختفت مع الوقت، ولم يبق أمامه سوى سباقات الخيل، لم يعرف أحد حتى من أقرب المقربين إليه هل كان يكسب فى هذه المسابقات أم لا؟، ولم يجب أبدًا عن هذا السؤال إلا إنه مع تقدمه فى السن ظل يحافظ على سباقات الخيل، دائمًا ما يستغنى عن ربع مرتبه للمراهنات، ومع الوقت أصبح يضحى بثلث مرتبه لهذا الغرض،
أجمل أيام الأسبوع بالنسبة إليه هو يوم الأحد من كل أسبوع، لا يعرف أى أحد على وجه التحديد كيف يترك عمله يوم الأحد، وما الأعذار التى يختلقها لكى يقتنع رؤساؤه العديدون بتلك الأعذار، بل وكيف انتقل فى وظائف عدة لكنه حافظ على طقس غيابه يوم الأحد، فقد كانت هذه هى نشوته القصوى التى فاقت حتى متعته بالجنس، كما أخبر أصدقاءه.
هى لحظة بدء السباق، لحظة انطلاق الخيول وخروجها لمضمار السباق هى أكبر متعة فى الحياة، صوت دبيب وخطوات الخيول مع حركة العلم وصوت طلقة الرصاص هى الحياة ذاتها، أو هى أجمل ما فى الحياة، عشق السرعة والحركة، أنها تلخيص حقيقى لمعنى الحياة ومحبة الخيل، وفكره أن أى شىء بعد ذلك غير متوقع، كل حركة لجوكى الحصان وحركة اللجام وضربات حوافر الحصان على الأرض، أى شىء يعادل تلك العلاقة الخفية بين الجوكى والحصان، وأثرها على صراخ الجماهير وأحلامهم، إنها إثارة لا يمكن وصفها أو تخيلها، لم يخطط أن يسكن فى قصر أو أن يملك شركة، أو أن تكون له عشيقة، لم يحلم بالثراء الفاحش أو غير الفاحش، كل ما كان يحلم به هو مضمار السباق الذى يعلو حبه وعشقه لديه فوق كل عشق، نجح فى هذا المضمار ولكنه فشل فى كل مضمار آخر، مضمار الوظيفة، مضمار الطبقة التى ينتمى لها، ولم يحلم بالخروج منها، فهو مثله مثل الملايين التى تأكل وتنام وتمارس الجنس وتنجب الأولاد ثم تموت.
سمى نفسه كما كان يسمع من الباشوات الذين كانوا يحضرون السباق بالـ( common man)، ولما عرف معناها أحبها جدًا، وكان يقول لنفسه أنا رجل عادى عادى جدًا، لى بيت وزوجة وأبناء، أعمل منذ كان عمرى ثمانية عشر عامًا، وها أنا أقترب من الثمانين ومر على أكثر من أربعين عامًا ولم يتغير فى حياتى شىء.
كل شىء عادى، بل عادى جدًا، إن لحظات السعادة الوحيدة فى حياته هى التى يعيشها فى مضمار السباق.
كان مجد مضمار السباق فى فترة الملك حيث كان يرى الملك ممسكًا بمنظاره الجميل ومعه الأمراء والباشوات، أما فى عهد ثورة ناصر فقد ضربت هذه الهواية فى مقتل وصارت دليلًا على حب العهد البائد.
ودارات الأيام فكان عهد الرئيس السادات، ورجعت سباقات الخيول لمجدها وعزها، لكن ظهرت هوايات وأماكن أخرى للسهر وللمتعة، ولم تعد سباقات الخيل بنفس الأهمية، وتغير ذوق الناس إلا هو، ظل على ولائه لحبه السرى الخفى، وإدمانه له، بل صار يعشق كل أنواع الخيول، الخيول البيضاء والخيول السوداء والخيول الهجين.
لكنه من نظرة عين واحدة يعرف الحصان العربى الأصيل، إلا أن تلك الهواية صارت فى هذا العهد، هواية محرمة يخاف منها الناس، والأكابر صاروا يلعبون الاسكواش والجولف ونسى الجميع الخيول، وقل الاهتمام بسباقات الخيل، حاول مرات عديدة أن يتوقف عن هذه الهواية نظرًا لانصراف الناس عنها، وأيضًا لكبر سنه، إلا أنه لم يستطع، قرر فى هذه المرة أن يراهن بكل ما يملكه، ليس على جواد واحد بل على كل الجياد، كان يعرف أنهم سينقلون مضمار السباق، وأنه لن يستطيع أن يذهب لهذا المكان البعيد، وهكذا واتته الفرصة ليتخلص من هذه الهواية، العشق الذى ضيع عمره عليه ولكن لكل شىء نهاية.
بدأ السباق، كل جوكى يتأكد من ربط خوذته، إنها لحظة الوداع أو مباراة الاعتزال تحرك العلم، وأطلقت الرصاصة، الجمهور القليل يصيح، ولكن ليس كما كان فى السابق، إنها بالفعل المرة الأخيرة، أرجوكم تحمسوا وتفاعلوا مع الحدث إنها مباراتى الأخيرة، هكذا كلم نفسه، لكنه أحس بأن الأمر لم يعد كما كان، خرج من المكان وهو لا يعرف أى حصان بالضبط سوف يفوز، وتخيل الجلبة التى ستحدث عندما يبحثون عن الرجل الفائز ولكنهم لن يجدوه، فهو مشارك بالرهان على كل الخيول، وبالتالى سيفوز حتمًا، من سيأخذ الأموال التى سيكسبها، هل سيزورن فى الأوراق، أم سيحصل عليها من هم بعده فى الرهان بمبالغ أقل، لحظات الخسارة واليأس التى عاشها ستنتهى أخيرًا.
وشعر بأنه كسب أكبر مكسب فى حياته، لقد صنع حدثًا، وحدث نفسه لن أعود لمضمار السباق لن أعود إليه أبدًا مهما حدث بينما صوت الخيول وجريها ما زال يتناهى إلى سمعه.