رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: المسارح الثلاثة لـ«الإلحاد والملحدين» فى مصر

جريدة الدستور

فى كل الأحوال لا نستطيع النظر إلى الإلحاد كحالة جديدة تنتاب بعض الأفراد، فهو قديم قدم الإنسان على الأرض. فى كل الديانات يظهر بين الفينة والآخر ملحدون بها ومنكرون لمعتقداتها وقيمها. فى الوجدان الإسلامى نستطيع أن نقول إن مسألة «الإلحاد» ظهرت على ثلاثة مسارح أساسية، المسرح الأول هو مسرح السياسة، والثانى هو مسرح العلم والعقلانية، والثالث هو المسرح النفسى.
الظهور الأول لمسألة «الإلحاد» - فى الوجدان الإسلامى- كان سياسيًا. وقد تجسد بشكل واضح منذ المراحل الأولى لتاريخ الإسلام والمسلمين. فكانت تهمة الزندقة «الإلحاد» ذات ظلال سياسية بالدرجة الأكبر. تلك نتيجة يمكن أن تستخلصها بسهولة من مطالعة ما سطرته كتب التراث حول أشهر «الزنادقة» وتجاربهم فى «الزندقة». الزندقة فى التعريف اللغوى العربى تعنى: «إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وتطلق على كل شاك ملحد ضال». هذا التعريف الذى يتبناه العرب للزندقة ينطق بالسياسة، وليس بالدين، إذ يقوم على فكرة التفتيش عن النوايا، ولا يعلم نية العبد سوى خالقه. وليس من حق عبد أن يتهم عبدًا مثله بأنه يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فهلا شق عن قلبه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم لأسامة بن زيد.
فى ظل الصراع السياسى الذى نشب منذ فترة مبكرة من تاريخ الإسلام بين الشيعة والسُنة أصبحت مفردة «الإلحاد والملحد» الأكثر ترددًا فى معارك الحرب النفسية بين الطرفين. فالشيعة شككوا فى إسلام بنى أمية واتهموا خلفاءهم بالإلحاد، وهى ذات التهمة التى وجهها بنو أمية ثم بنو العباس إلى معارضيهم فى الرأى والثائرين على حكمهم من الشيعة والخوارج. ومنذ ذلك الحين تواصل الاستخدام السياسى لتهمة «الإلحاد» حتى عصور متأخرة وقريبة من يوم الناس هذا. ومن عاصر أيام الرئيس أنور السادات - رحمه الله- يذكر أنه كثيرًا ما كان يدمغ معارضيه من اليسار المصرى على وجه الخصوص بـ«الإلحاد». التجليات السياسية للإلحاد سائدة على محورى التاريخ والجغرافيا الإسلامية، فى مقابل ظهور محدود للتجلى العقلانى المرتبط بالاحتكام إلى العقل والارتكان إلى ماديات العلم وعدم الالتفات إلى الغيبيات وما يرتبط بها من معتقدات دينية. وإذا كنا نقرأ فى صفحات التراث توظيفًا لتهمة الإلحاد يستهدف تشويه الخصوم السياسيين دون أن يكون لها أى علاقة بمسألة الدين أو الإيمان، لأن الله تعالى هو وحده المحيط بقلوب البشر والأعلم بمنسوب إيمانهم، وهو حكم عدل بينهم، فبإمكانك أن تظفر بتجل جديد للعبة الإلحاد اتخذ هذه المرة وجهًا علميًا عقلانيًا، ربط بين حالة التخلف التى يعيشها المسلمون وإيمانهم الدينى، ورأى فى نمط التدين سببًا من أسباب التخلف. خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ومع صعود موجات التشوق إلى النهضة والتخلص من أغلال التخلف ظهر فى مصر بعض الأصوات الداعية بشكل صريح إلى الإلحاد. كان أكثرها ارتفاعًا صوت الكاتب الشهير «إسماعيل أدهم» الذى قضى سنى طفولته فى الأستانة بتركيا ثم انتقل مع أبيه إلى مصر، وسافر للحصول على درجة الدكتوراه من إحدى جامعات موسكو، ثم عاد من جديد إلى مصر ليبشر بأفكاره الجديدة الداعية إلى الإلحاد ونبذ العقائد. ألف إسماعيل أدهم رسالة (كتيبًا صغيرًا) اختار لها عنوانًا استفهاميًا جريئًا: «لماذا أنا ملحد؟». يشرح الكاتب فيه رحلته مع الدين فى طفولته، وكيف أن أباه كان يقهره على أداء العبادات الإسلامية، ويأطره أطرًا على حفظ القرآن، وكانت النتيجة أن انصرف «أدهم» عن كل هذا وشغف بدراسة العلم ونظرياته وآمن بنظرية التطور الطبيعى لداروين. وكانت النتيجة كما يقول «أدهم»: «وكانت نتيجة هذه الحياة أنى خرجت عن الأديان وتخليت عن كل المعتقدات وآمنت بالعلم وحده وبالمنطق العلمى. ولشد ما كانت دهشتى وعجبى أنى وجدت نفسى أسعد حالًا وأكثر اطمئنانًا من حالتى السابقة التى كنت أغالب فيها نفسى للاحتفاظ بمعتقد دينى». ولو أنك تأملت التعريف الذى تبناه إسماعيل أدهم لتحديد مفهوم الإلحاد فسوف تستشعر أن ما أعلنه من ترك للعقائد الدينية وتمسك نهائى بالعلم والمنطق العلمى عبّر عن نوع من الاحتجاج على الواقع المتخلف الذى يعيش فيه المسلمون. يرى «أدهم» أن الإلحاد يعنى الإيمان بأن سبب الكون يتضمنه الكون فى ذاته، وأن ثمة لا شىء وراء هذا العالم. إنه نفى كامل للإيمان بالغيبيات التى صرفت غالبية المسلمين عن البحث عن الأسباب العلمية للمشكلات، وتسخير المعرفة فى تطوير الواقع وتغيير صورته، والارتكان إلى التفكير المنطقى العقلانى فى إدارة أمور حياتهم. مشكلة كثير من المسلمين أنهم يتمحكون بالسماء فى مواجهة كل أحداث الأرض، ولا يرون فى العقل أكثر من زائدة دودية قد يؤدى تشغيلها إلى الإضرار بإيمان الفرد والجماعة. ومشكلة الراحل إسماعيل أدهم وغيره ممن آمنوا بالعلم ونبذ الأديان أنهم حكموا على الإسلام كعقيدة من ممارسات معتنقيه. ولست بحاجة إلى التأكيد على أن النص القرآنى يجعل من العقل مركزًا للحياة. بإمكانك العودة فى هذا السياق إلى كتاب عباس العقاد: «التفكير فريضة إسلامية». الإيمان المطلق بالعلم والمنطق العلمى هو الوجه الآخر للإيمان المفرط بالخرافة ورد كل أمر من أمور الحياة إلى ما وراء الحياة. والوجهان شاهدان على حالة الاعتلال التى أصابت المجتمعات المسلمة التى وقعت بين مطرقة الاحتجاج السلبى على التخلف دون اجتهاد فى توعية من يعانون منه، وسندان الاستسلام الكامل لحالة الرداءة والانسجام مع القبح. وإذا انتقلنا من مشاهد القرنين التاسع والعشرين إلى مشاهد الحاضر فسنجد أن صورة جديدة من صور الإلحاد بدأت تتسكع هذه الأيام داخل مصر. وهى صورة الإلحاد لأسباب نفسية. منذ أيام تزلزل عالم السوشيال ميديا بإعلان أحد الشباب المشاهير بين أبناء جيلهم الإلحاد وترك الإسلام، ثم عاد بعدها وأكد أنه على إيمانه. فى ظل ظروف ومعطيات العصر الحالى أصبح الإلحاد تعبيرًا عن أزمات نفسية أكثر منه تهمة سياسية أو تمردًا عقليًا ومنطقيًا على فكرة الغرق فى الغيبيات. خلال النصف الأول من القرن العشرين كان الإلحاد تهمة توجه أو اعترافا يتردد على لسان المفكرين والباحثين المؤمنين بالعلم ونظرياته وتفسيراته لنشأة الكون والحياة على الأرض، أما اليوم فقد أمسى الإلحاد كلامًا يتردد على ألسنة «المأزومين نفسيًا». الجيل الجديد من الشباب ينظر إلى مجتمع الكبار فيضرب كفًا بكف بسبب الحجم المهول من التناقضات الذى ينسج حياتهم. إنه يلاحظ التناقض بين أقوال الكبار وأفعالهم، بين ما يلقنونه له من توجيهات وتعليمات تتناقض مع سلوكهم الشخصى. الشاب يجد الأب يصلى ويصوم ويحج ويعتمر بأموال فاسدة المصادر والمسالك. إذا كان فقيرًا يجد الغنى يحدثه عن ضرورة الاجتهاد فى حياة تحركها الواسطة والمحسوبية والانتماء العائلى بصورة لا تمنح الفقراء الفرصة ليرتقوا فى السلم الاجتماعى والاقتصادى، إلا إذا اقترن سعيهم بالفهلوة والانبطاح والنفاق. الجيل الحالى من الشباب ذكى للغاية فى رصد التناقضات، يتأمل الآيات التى تتكرر على الألسنة ويسمع نغمات البسملة والحوقلة والحسبنة والمشيئة فيظن أنه يعيش فى مجتمع يغرد بالإيمان، ثم يلاحظ المفارقة بين الأقوال والسلوكيات والأفعال، وبعدها يسأل نفسه: هل هذا هو الدين؟!.
أخشى أن أقول إن الشباب يشعر بأن أطرافًا عديدة تستغفله باسم الدين. الأمر ليس مقصورًا على الجماعات التى تسخر الدين لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل يمتد إلى أطراف أخرى كثيرة تشمل جهات ومؤسسات وشخصيات متنوعة المشارب والأهداف تلعب اللعبة نفسها معه. وعندما تقترن حالة الاستغفال بشعور غير حقيقى بأن الدين والمتدينين وجهان لعملة واحدة فلا بد أن يهتز اليقين الإيمانى للشاب. واهتزاز اليقين يؤدى إلى فقد الثقة بالجميع، بما يترتب على ذلك من آثار نفسية مدمرة. وتتفاقم الأزمة أكثر وأكثر عندما تتزايد ضغوط الحياة على جيل شاء الله له أن يعيش مرحلة تحول محلى وإقليمى وعالمى شديدة الخطورة والحدة، لتصبح الآثار النفسية أشد تدميرًا.
جيل الشباب الحالى يختلف عن الأجيال التى سبقته. فالسابقون من أهل مصر المحروسة تعودوا على التسليم والانصياع، وهو الأمر الذى سهل عليهم تبنى الغيبيات دون مناقشة أو تمحيص أو قدرة على فرز ما يقترن بها من خرافات، وفصلها عن الأحاسيس الإيمانية الحقيقية. جيل الشباب المعاصر يجيد طرح الأسئلة، ولا يطمئن إلا للإجابات المنطقية عنها. والواضح أن الطريقة التى يلاحظ بها شبابنا تفاعل الدين فى الواقع، وكذلك طريقة طرح الدين عليه لا ترضيه.

دوري ابطال اوروبا

365Scores.comمزود من

الدوري السعودي

365Scores.comمزود من

الدوري الانجليزي

365Scores.comمزود من

الدوري الاسباني

365Scores.comمزود من