رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وثائقيات مصر تدحض الأكاذيب


تُعد السينما التسجيلية أحد الروافد، التى يمكن أن يُستقى منها التاريخ، وقد بدأت السينما فى العالم عمومًا، تسجيلية، بعد أن ولدت فى الثامن والعشرين من عام ١٨٩٥ ميلادية، على يد الأخوين لوى وأوجست لوميير، اللذين قدما عرضًا لمدة دقيقتين، بعنوان «الخروج من مصانع لوميير» و«وصول قطار إلى محطة لاسبوتات».. ومنذ ذلك التاريخ بدأت السينما التسجيلية فى الظهور والانتشار.

ظهر أول فيلم تسجيلى فى تاريخ السينما المصرية عام ١٩٢٤، ليواكب افتتاح مقبرة «توت عنخ آمون» وقد أخرجه محمد بيومى، رائد السينما المصرية، وكانت مدته ثمانى دقائق، ثم تلاه فيلم «حديقة الحيوان» من إخراج محمد كريم عام ١٩٢٧، ثم أخرج نيازى مصطفى عددًا من الأفلام الدعائية لشركات بنك مصر عام ١٩٣٦، كذلك أخرج المصور السينمائى مصطفى حسن فيلم «الحج إلى مكة» عام ١٩٣٨، كما أخرج صلاح أبوسيف فيلمًا عن «وسائل النقل فى مدينة الإسكندرية» عام ١٩٤٠، ثم سرعان ما تحول كل هؤلاء، بعد ذلك، إلى إخراج الأفلام الروائية، وأصبحوا أعمدة السينما المصرية.. إلا أن الرائد الأول للسينما التسجيلية، الذى أجمع عليه النقاد والمؤرخون، هو المخرج سعد نديم، لأن هذا الرجل أفنى عمره كله فى إنتاج الأفلام التسجيلية ولم يتحول عنها إلى غيرها.
وحينما بدأ التليفزيون المصرى إرساله عام ١٩٦٠، أخرج سعد نديم للشاشة المصرية والعربية عدة أفلام مهمة منها، متحف السكة الحديد، أسوان، مدينة سياحية، مدينة كوم أمبو، جزيرة فيلة، البترول، الحديد والصلب، كما أخرج للتليفزيون أفلام، النحاس، التجارة العربية، الزجاج، الفخار، الكليم والسجاد، الخيام، الحصر، تطعيم الخشب، الجلود، الذهب، كما أخرج عددًا من الأفلام عن الآثار الفرعونية، منها تراث الإنسانية، أبوسمبل، من فيلة إلى إيجيليكا، وتعتبر هذه الأفلام وغيرها من الوثائق التاريخية التى صاحبت مسيرة الحضارة المصرية على مر العصور. إلا أن الجميل لا يدوم، أو أننا اعتدنا أن نكون أول من يُبدع ويبتكر، فى كل فن، ثم سرعان ما نترك الميدان لغيرنا، يصول فيه ويجول، وقت تشتد حاجتنا إلى ما كنا نحن مُبدعيه.. فقد شهد الفيلم التسجيلى، أو ما يُطلق عليه الآن «الوثائقى»، على مدار السنوات الماضية، حالة من التراجع فى الإعلام المصرى، بالرغم من دوره الوطنى، واستعراضه للتاريخ وخلفياته، وأهميته فى توضيح سياسات الدولة، خاصة فى ظل ثورة التكنولوجيا الهائلة، ولنا أن ندرك أن جزءًا كبيرًا من شهرة قناة «الجزيرة»، صنعتها الأفلام الوثائقية التى أنتجتها، بغض النظر عن مصداقيتها، أو أنها جزء من تآمرها على جيرانها، وأشقائها من دول الخليج العربى.. فأين تكمن المشكلة؟. غياب خطة العمل فى ماسبيرو، بيت هذه الأفلام ومنشأها، وقلة الموارد المالية، وانخفاض جودة الصورة على شاشات قنواته، بالإضافة لمرور الإعلام بمرحلة صعبة، بسبب التقلبات السياسية التى شهدتها مصر، منذ عام ٢٠١١ وحتى الآن، كانت وراء توقف الإنتاج عن الوثائقيات منذ تسعة أعوام، إفساحًا للمجال أمام الأخبار العاجلة التى فرضتها ظروف المرحلة، بالإضافة إلى ضياع التركيز المطلوب فى إنتاج مثل هذه الأفلام، وشح الموارد، مقارنة مع ما تتطلبه من أموال كثيرة، ومجهودات ضخمة، قد تصل إلى شهور من الإعداد والتخطيط والتنفيذ.. هذا دفع الكثير من صناع الوثائقيات، من مخرجين وكُتاب إلى القعود عن العمل، لأنه لم تعد هناك، بعد ماسبيرو، منصة إعلامية يمكن أن تحتضن أعمالهم، أو أن تنتصر لأفكارهم، حتى تسيدت قناة «الجزيرة» الموقف. الآن.. تبدو فى الآفاق، بوادر صحوة، تُنبئ عن بدء حالة من التعافى الإعلامى المصرى، الذى يبدو أن القائمين عليه أدركوا مؤخرًا، كم كان خطأً كبيرًا، غياب هذا الفن منذ فترة، صال خلالها المتلاعبون بعقول المواطن المصرى وجالوا، دون أن يكون هناك من يتصدى بالنفى والتكذيب، وتقديم الصورة الصحيحة عما يجرى على أرض مصر.. ولكن كما يقولون، «أن تأتى متأخرًا، خير من ألا تأتى أبدًا».. لكن يبدو أن العودة تأخذ شكلًا من حماسة رد الفعل، أو هى استجابة فورية لصناع القرار، دونما دراسة متأنية، تحدد الأفكار المطلوب تناولها، والأهداف المرجوة منها، وكيفية دعم منفذى هذه الأفكار بالمعلومات الصحيحة، من مصادر لا تضن بها، أو تتحفظ عليها، تحت أى علة من العلل.. ناهيك عن توفير التمويل المطلوب، حتى تظهر وثائقياتنا بالشكل الجاذب لمشاهدتها، أسوة بما يراه المشاهد على قنوات أخرى متخصصة. الأمر الأهم، الذى أريد الإشارة إليه.. أنه فى حمأة هذا الحماس، سوف تأخذ كل قناة بمبادرة صناعة بعض من هذه الوثائفيات.. قد تتشابه فى أفكارها، وقد تتعارض فى تفاصيلها، مما يمكن أن يُفقد بعض ما سيُنتج مصداقيته، ويأتى بعكس ما أُريد منه لدى المشاهد.. ولذا فإننى أرى ضرورة قيام وحدة تختص بصناعة هذه الأفلام، تشترك فيها كل الفضائيات المصرية، وتتعاون جميعها فى وضع أفكارها وتولى إنتاجها، ودعمها بالتمويل المطلوب.. ولا بأس عندى أن يكون مقر هذه الوحدة، هو مبنى ماسبيرو.. رغبة منا فى إعادته للحياة بعد أن صار شبه مهجور، واستغلالًا لكوادره المتميزة، صاحبة الباع الطويل، فى هذا النوع من الفن.. الخطير.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.