رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرسول بين القرآن والحديث


نحن الآن فى السنة العاشرة من الهجرة، والقرآن أمسى نديًا بين أيدينا، والجزيرة العربية قد أخذت طريقها إلى الإسلام، وأصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتحلقون حوله، ولكنهم لم يكونوا شيئًا واحدًا فى العلم والفقه والدراية، كما أنهم لم يكونوا صفًا واحدًا فى قربهم إلى رسول الله، فإذا كان الله قد خلقنا أخلاطًا، فقد خلقهم أيضًا أخلاطًا، منهم من اشتد على نفسه فى الدين، ومنهم من يسّر على الناس، ومن بين الصحابة من كان بابًا من أبواب المعرفة، ومنهم من لم يُؤثر عنه معرفة ولا فقه، فلم يأخذ منهم أحدٌ دينًا.

مرت السنون، وأخذت الدنيا من أخذت، وأخذ الموت من أخذ، وبقى القرآن نديًا يخبرنا عن الإسلام وعن النبى، قال لنا عن أخلاق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الكثير، أتدرى ما قال؟ إن كنت لا تدرى فاعلم أن رب العزة قال وهو يخاطب سيدنا محمد: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» والخُلق العظيم هو الذى يجمع المروءة والشهامة والنخوة والكرم وعفة اللسان والحياء، فإذا جاء لى بعد ذلك من يخبرنى أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سبّ رجلًا من الكفار وشتمه وأغلظ له القول، أو أنه حرّض على اغتيال فلان من الكفار غيلة ودون أن يكون الكافر على أهبة الاستعداد للقتال! فلن أصدقه، أَأُكَذِب رب الناس، وأُصدق رجلًا من الناس لا أعرف ما الذى دعاه للانتقاص من رسول الله، ولن أصدق أى قولٍ من أى رجلٍ مهما كان قدره فى التاريخ، يقول إن الرسول كان فظًا، لأننى أصدق قول الله «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ».

قال لنا القرآن إن بعض أصحابه كانوا يجلسون معه فيحتدون فى الحديث فيما بينهم، فيرفعون أصواتهم، فيتكلم هو ليسكتوا، فلا يأبهون لحديثه ويرفعون أصواتهم فوق صوته الخفيض، فيحمر وجهه ولا ينبس ببنت شفة، فيتنزّل قرآنٌ يقول الله فيه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ»، ويقف بعض أصحابه من أصحاب الطباع التى فيها بداوة وخشونة خارج داره، فينادونه بصوت مرتفع، فيؤذيه هذا، فلا ينهاهم، فيقول الله سبحانه «إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ» فيكون حكم الله فيهم أن أكثرهم.. أكثرهم.. للمرة الثالثة أكثرهم «لَا يَعْقِلُونَ».
هذا هو النبى، وهذا هو الخُلق الذى فطره الله عليه. أعرف من القرآن أن الرسول، كان حييًا، فكان يتأذى من أولئك الذين كانوا يدخلون بيته دون استئذان، ولكنه كان يستحيى منهم فلا ينهاهم عن هذا، ثم بعد أن يدخلوا ويأكلوا يمكث بعضهم فلا يخرج، والرسول يستحى منهم! حتى أنزل الله قوله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِى مِنَ الْحَقِّ»، فهل لى بعد هذا أن أُصدق أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهو بهذا الحياء كان يخبر أصحابه، أو خادمه أنس بن مالك، أنه كان يأتى زوجاته فى اليوم الواحد بغُسل واحد!! كلا ورب العزة، ما هذا بقول الرسول ولا بفعله، صدق الله وكذب من نقل هذا عنه، هذا هو حياء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلا يحدثنى أحدهم عن أن الرسول كان يحكى لأصحابه كيف كان يجامع زوجاته.
هذا القرآن ما زال وسيظل نديًا بين أيدينا، يخبرنا أن الرسول أرسله الله رحمة للناس، كل الناس، فقال «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» وهذا هو الله يقول «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ»، فلا يخبرنى أحدهم أن الرسول، اعتدى، أتريد منى أن أصدق أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، حمل سيفه وجاب الجزيرة من شرقها إلى غربها يُعمل القتل فى أهلها إلا أن يتبعوا الإسلام؟! أتريد من الرحمة أن تقتل الناس لأنهم لم يؤمنوا! أتريد من الرحمة أن تغزو؟! فليقل الناس ما يريدون وليدّعوا على رسول الله كما يشاءون، ولكن الرسول لم يذهب غازيًا لأحد، بل كانت كل حروبه دفاعية، حاربه قومه فأخرجوا سيوفهم، وعذبوا أصحابه، فهاجر ولم يقاتل، فتعقبوه فى المدينة، فدافع ولم يعتدِ، وجمعوا القبائل يريدون استئصال الدين، فحفر خندقًا حول المدينة، وكان يستطيع أن يقاتل بالسيف، ألم يكن مؤيدًا من الله رب العالمين؟! ولكنه بحث عن وسيلة لا يكون فيها أى عمل للسيف معه أو ضده.
طلب الله منه أن يدعوهم فقط، وليس عليه هداهم، وليس له أن يشتد على نفسه فى سبيل ذلك، فقال له «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ»، وقال «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»، وقال معاتبًا «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»، أى لعلك تُهلك نفسك من الجهد، وقال أيضًا «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا»، وقال أيضًا «فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، وقال أيضًا «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ»، فليس لأحد بعد كل هذه الآيات أن يقول لى إن الرسول قال إنه بُعث بالسيف، أو إن الله جعل رزقه تحت ظل رمحه، أو إن الله أمره أن يقاتل الناس جميعًا حتى يكونوا مؤمنين، من سيقول لى ذلك سأضرب الصفح عن كلامه وسأرميه وراء ظهرى، فلا هو إسلام ولا هو دين، بل هو، كما يقول العامة فى الريف المصرى، «كلام ابن عم حديت».