رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من الحضارة إلى الزيف



أصبحت الهجرة المنظمة وغير الشرعية من أهم القضايا التي تؤرق المجتمعات العربية منذ سبعينيات القرن الفائت، تعددت أسبابها بين أغراض الهروب من واقع لا يمكن الفرار منه مثل الحرب والاحتلال أو ظروف الأحوال الاقتصادية المتردية التي طغت على بلدان العالم الثالث على وجه الخصوص؛ حيث اتجه الشباب العاطلين والمحبطين للبحث عن مخرج وطوق نجاة لإنقاذ مستقبلهم من الضياع تحت سيطرة ما يواجهون من مصاعب واضطهاد لما تمارسه بلادهم من التعنت في الرأي والديكتاتورية في الحكم والتي خلقت نوعا من التفاوت الطبقي الذي أدى بدوره إلى صنع حالة من التوتر الدائمة الممتلئة بالحقد.
للسينما العربية دورا مهما في إبراز رغبة الشباب في الهجرة وإلقاء الضوء على أهم المشاكل الناتجة عن ذلك فمن أوائل الأفلام التي أوضحت تلك الرغبة -بعد فيلم قنديل أم هاشم- 1968 إخراج كمال عطية عن رواية موسي صبري، على اعتبار أن إسماعيل شكري سرحان طالب كلية الطب لديه غرض نبيل للسفر إلى أوروبا؛ حيث يطلب العلم بعيدا عن استخدام زيت القندل الضار لعلاج عيون المرضى ولكن امتلأت تلك الفترة بأفلام عدة تدور حول رغبة الشباب المحمومة بالهجرة خارج أوطانهم والذين لم يحققوا جميعا النجاح المطلوب والمتوقع حيث يعتقدون في البداية أن جميعهم "محمد حسن" عامل الخراطة والملاكم الشهير الذي تزوج هيلجا وعاش معها وسط ملايينه التي لا تعد وقد ظهر ذلك في فيلم النمر الأسود 1984 لأحمد زكي وإخراج عاطف سالم والمقتنية قصته عن قصة حياة حقيقة تحمل الاسم نفسه.
لكن هناك نماذج من الفشل قد سجلتها السينما المصرية في عدة أفلام مختلف، فمنها من حمل الطابع الساخر مثل فيلم عنتر شايل سيفه 1983 بطولة عادل إمام وإخراج أحمد السبعاوي حيث واجه الرجل الفلاح الذي لم يعتاد الغربة عصابة من صانعي الأفلام الإباحية المسيئة لمصر وللشعوب العربية جميعا ليعود عنتر إلى أرض الوطن باكيا محبطا ويحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرضه ومنزله ويبكي رضيعته المنوفية تخت أقدام بقرته.
من الأفلام التي لم يتم عرضها أو التي منعت من العرض لأسباب سياسية ورقابية والتي احتوت على أولى مشاهد تبرز مشكلة التحرش الجنسي الذي يعد احد دوافع الشباب للهجرة إلى بلاد أكثر انفتاحا وتحررا وأكثر اتساعا لفرص العمل المجزية.

ولد وبنت والشيطان
من أبرز الأعمال السينمائية التي أظهرت رغبة شباب جيل السبعينات في الهجرة خارج مصر حيث تم إنتاج الفيلم عام 1971 إنتاج وإخراج حسن يوسف، حيث يلعب يوسف دور عادل الشاب اللعوب غير المسئول والمهمل لعمله وتطوره المهني في مجال الهندسة، يودع حبيبته فايزة نجلاء فتحي لينطلق في المدن الألمانية مسحورا بالخوجاية مونيكا بريجيت هارير المتحررة والمخالفة لطبيعة حبيبته فايزة التي يطي عليها الطابع الشرقي حيث يفشل عادل في عمله ويتم فصله من الشركة الألمانية التي ينتظره من خلالها مستقبل عظيم، لكنه أخيار الشاب الطموح لعلاقات نسائية أكثر تحررا وجراءة وفي هذه الأثناء تتراكم الديون على عادل في بلاد غربية لا يتعال مواطنيها بأسلوب "العشم" الشرقي في حين يظهر على الجانب الأخر احد أقرباء فايزة الذي لعب دوره نور الشريف يرغب في الزواج منها، حتى يتم إعلان الحرب في سسيناءء ومن وقتها يتجه عادل للعيش مثل "الهيبيز" أو هؤلاء ساكني الشوارع من ال homeless فيتخلى عنه صديقه المصري أحد أبناء حارته الذكي الذي انتبه لقيمة عمله وقيمة زوجته الألمانية الثرية، ذلك الجار الذي لبي أخر طلبات صديقه عن طريق تسفيره إلى أرض الوطن حيث يرتمي في أحضان عائلته ويعاود استمرارية علاقته بفايزة حب عمره لينتهي الفيلم عند نقطة مجدد مسبقا من قبل السيناريو الذي كتبه المخرج والممثل محمد سالم وهي أن الفشل نهاية كل مهاجر بلا هدف غي هدف النجاح واقتناص الفرص.

الهجرة غير الشرعية طلبا لاختصار المسافات

المخدوعون
هناك موجة في السينما المصرية والعربية تبرز مشكلة الهجرة غير الشرعية التي اضطر لها الشباب فترة زمنية غير قصيرة من عمر الوطن والتي تتمثل خطورتها في الطرق المتبعة في إجراء هذا النوع من الهجرات الكارثية، حدث ذلك جراء احتلال الأوطان فلم يجد أبناء الأرض مكانهم تحت سماءها مثل الفيلم السوري المخدوعون الذ يعد احد روائع المخرج توفيق صالح والمأخوذ عن رواية غسان كنفاني بعنوان رجال في الشمس والذي تم إنتاجه بين عامي 1972 و1973 والذي يدور حول تأثيرات النكبة الفلسطينية عام 1948 عن طريق ثلاث شخصيات رئيسية من أجيال وأعمار مختلفة وظروف حياة مختلفة ولا يجمع بينهم سوى رغبتهم الكبيرة في الهجرة إلي الكويت حيث وقت انفجار أبار البترول من باطن الأرض وطفو الأموال علي السطح ليتمنون جميعهم الحصول على فرصة حياة أفضل.
كبير المجموعة المهاجرة أبو قيس الذي فقد نخلات البلح الذي أدمن رائحة طينها التي تنمو فيه كما فقد منزله وسكن وأسرته احد المخيمات ولكن حلمه باقتناء أرض ومنزل كان يطغى على تفكيره فيقرر اللجوء إلى أحد سماسرة تهريب البشر من خلال الطرق البرية الجبلية المميتة كما فعل أسعد الشاب الثوري الذي واجه مشكلات في الهجرة المنظمة العادية لنشاطه السياسي وثالثهما كان الطفل مروان طالب المدرسة الذي لجأ إلى الهجرة لمساعدة والدته وأشقاءه الصغار بعد انقطاع الأموال عن عائلته التي يحولها شقيقه الأكبر المقيم في الكويت وزواج والده من امرأة أخري تمتلك منزل كبير ودخل منتظم.
بعد مباحثات ومشاورات يتّفق معهم السمسار أبو الخيزران الجشع على تهريبهم بخمسة دنانير، لكن بشرط أن ينزلوا إلى داخل الخزان إبان عبور الحدود العراقية والكويتية لمدة دقائق معدودة، ينهي خلالها المعاملة المطلوبة ثم يعود لإخراجهم، وبالرغم من حرارة الصيف اللاهبة، يضطرون للموافقة على هذا الشرط لعدم وجود البديل، لكن أبو الخيزران لم يستطع في المرة الثانية أن ينقذهم في اللحظة الأخيرة وينتشلهم من الخزان الصاج الذي يرقد تحت شمس الحدود الكويتية الملتهبة لينتهي الفيلم على مشهد من أقسى ما يمكن مشاهدته، ثلاث أجساد أحدهم لعجوز والأخر لشاب والثالث لطفل عرايا كما ولدتهم أمهاتهم ملقية في صندوق القمامة ووق فارقتهم الحياة، تخلص سمسار الهجرة من الجاثمين الميتة في صندوق الزبالة.

البر الثاني
من الأفلام المصرية الحديثة التي تم إنتاجها مؤخرا لمناقشة موضوع الهجرة غير الشرعية عام 2016 للمخرج علي إدريس وبطولة محمد علي ومحمد مهران وعمرو والقاضي؛ حيث يتقابل ثلاثتهم علي متن المركب يدور الفيلم حول ثلاثة شباب في أعمار متقاربة أحمد محمد علي ذلك الشاب الذي يعمل فني تكييفات في القاهرة في عمل موسمي وراتب بخس لا يحفظ كرامة العاملين مما يدفع أحمد للاستقالة من عمله والعودة إلى قريته حاملا الحلوى التي لا يعرفها أخوته ووالديه عفاف شعيب وعبد العزيز مخيون، تتضح ظروف المعيشة الضنكة من خلال انهماك عائلة أحمد في تقطيع البامية وتجهيزها للبيع في مقابل عشرة قروش للكيلو، وبذلك لا تجد العائلة سوى أربعة جنيهات يوميا تكفى الخبز فقط، يقرر أحمد أن يهاجر إلى الشمال عبر البحر المتوسط وكان عليه أن يدبر مبلغا ماليا كبيرا نسبيا يصل إلى عشرة آلاف جنية مع توقيع والده على وصل أمانة يدفع عند وصول المسافر إلى بلد المهجر لسمسار الموت بيومي فؤاد.

عماد عمرو القاضي شاب ثلاثيني حديث الزواج وفى انتظار مولودة الأول لكن عماد يعمل في مجال غير مستقر طوال العام بل يقضى معظم شهور السنة عاطلا بقيا في منزل والدته الفقير، تعرض عليه زوجته قطعة ذهبية ثمينة قد ورثتها وشقيقتيها وكان لا بد من إثبات أحقية شريكات الإرث في عودة أموالهن إليهن بمجرد وصول عماد زوج شقيقتهن لايطاليا وإيجاد العمل المناسب ومن ثم يبدأ في سداد الدين.
مجدي محمد مهران الابن الوحيد لوالدته والذي تخطى مرحلة المراهقة بسنوات قليلة ويحلم بالسفر للخارج بعد أن ضاقت سبل المعيشة سدت أبواب الرزق إمامه ووالدته الأرملة التي لا تجد من يعيلها إلا عمل مجدي ولدها من ورشة نجارة بسيطة تحت إمرة رب عمل فظ وبذلك ينتقل مجدي ووالدته من منزل لأخر بعد أن يمتنعان عن دفع الإيجار ومن ثم يخسران بعضا من أثاث المنزل في كل مرة، توافق الأم حنان سليمان على سفر وحيدها وتقوم بمرافقته حتى شاطئ البحر الذي يتفاجيء المهاجرون أن عليهم السباحة لمسافة قصيرة حتى بلوغ السفينة التي تتعجل الرحيل خشية بطش خفر السواحل المحلية.

تواجه المجموعة أهوال الموت بالغرق مختبئين في قبو السفينة المتهالكة هبا من خفر السواحل التي تطلع على الهويات والتي يجب التخلص منها قبل الاقتراب من المياه الدوية طبقا لقوانين سماسرة الموت، لتلقي أجساد بعضهم موتى في البحر والبعض الأخر يكاد يموت خوفا أو ندما بعد مواجهة طريقة الموت القبيحة المعتادة للمهاجرين غير الشرعيين.
لماذا لا يتم تأسيسي اتفاقيات لتسهيل عملية الهجرة والسفر بين بلدان العالم الثالث وأوروبا أو أمريكا مثلا؟ يستطيع المواطن الإفريقي أو الأسيوي للسفر إلي بلاد النور المتحضرة فينعم قليلا بطعم الحياة التي لم يذق ما يشبهها في موطنه؟

لا عليك.. لا تأخذ تساؤلي على محمل الجد بل اعتبره نوعا من التنفيس عما بداخل صدور معظم مواطني مصر وشمال أفريقيا ذلك التنفس الذي دفع صناع السينما في هذه البلاد إلي اللجوء السينمائي عوضا عن اللجوء السياسي لبلاد الغرب، من هذه الأفلام التي تناولت فكرة تجربة الهجرة المشروعة عن طريق سفارة الدولة المرجو السفر إليها كان فيلم مصري إنتاج هذا العام بعنوان طق صناعي إخراج خالد دياب، وسبب التسمية أن يحاول أحد المواطنين يدعي حسين إقناع زوجته بتناول قرص دواء من شأنه أن يسبب لها طلق الولادة لتسريع عملية وضع جنينهما في داخل السفارة الأمريكية بالقاهرة مما يمنح الأب الحق بان يطالب بالجنسية الأمريكية لابناءه بما أنهم قد ولدوا على ارض أمريكية، تخشى الزوجة أن تستخدم الدواء ينقلب الأمر إلى فيلم الإرهاب والكباب للمخرج شريف عرفة ويتحول حسين الضى قام بدوره ماجد الكدواني إلى إرهابي يحتجز زائرين السفارة الأمريكية كرهائن لحين ولادة زوجته هبة حورية فرغلي وعندما تتأخر هبة في الولادة يحاول حسين أن يدفعها للقفز من أعلى المقعد ومن ثم تجرب مجددا وهكذا حتى يسهل عليها عملية الولادة السرعة للتخلص من الموقف الصعب في ظل توفد عناصر الأمن لاعتقاله.
إلى هذا الحد رغبة المواطنين المصريين في الهجرة حتى يخاطر بحياة زوجته وطفليه التوءم الساكنان أحشاءها أو يخاطر بضياع مستقبله ليقضي باقي حياته معتقلا في السجن، حيث ينتهي به المطاف للوصل إلى بغيته وولادة أحد الطفلين على أرض السفارة فتنقله عربة إسعاف الصليب الأحمر ويولد الطفل الثاني في عربة الإسعاف المصرية التي تحمل شعار الهلال الأحمر على أن يقو الطفل الأمريكي بأن شقيقه ووالدته للهجرة على جنسيته الأمريكية بينما تحمل عربة "البوكس" الأب الذي تنازل عن العيش مع أسرته في مقابل تأمين حياة كريمة لهما في الولايات المتحدة على أن يلتقوا جميعا فيما بعد.