رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مى زيادة وعيد الحب.. قضيتان خاسرتان


اليوم ١١ فبراير، ذكرى ميلاد صديقتى الحميمة الوحيدة، مى زيادة.. ١١ فبراير ١٨٨٦ - ١٩ أكتوبر ١٩٤١. وبعد ثلاثة أيام، يوم ١٤ فبراير، عيد الحب العالى، أو يوم فالنتين. ولا أستطيع أن أتناول قضية الحب، دون أن أرسل باقة من الورود المحبة، العاشقة، إلى «مى»، فى مثواها الأخير. لا أحب تعبير «المثوى الأخير»، لأن المثوى الأخير لأى إنسان، ليس حفنة من التراب، ملقاة على وجهه، أو مساحة ضيقة، يرقد إلى الأبد فيها.
لكن المثوى الأخير، لنا، هى فى قلوب منْ يحبوننا، ومنْ كانوا حقًا يهتمون بأمرنا، وبسبب رحيلنا لم يتوقفوا عن التحسر، والبكاء، والشعور بمرارة الحياة، وسُنتها القاسية، غير المبالية. وربما، أو غالبًا، بعد فوات الأوان، والعُمر، يشعرون بأنهم لم يجزلوا لنا العطاء الواجب.
وتبدو الكتابة عن يوم فالنتين، أو عيد الحب، فى عالم ممتلئ بالكراهية، والتعصب، والجشع، جرأة لا أُحسد عليها. تمامًا كما هى الكتابة، عن كاتبة، وشاعرة، مثل «مى»، جاءت فى المكان الخطأ، وفى الزمان الخطأ. قضية الحب، وقضية «مى»، كلتاهما، قضية خاسرة، فى هذا العالم، المؤسس على مبادئ فى جوهرها، ضد الحب، وضد المرأة الكاتبة، التى تحمل فى قلبها، وعلى أوراقها، تَخُط مبادئ متمردة ضد هذا العالم.
صوت داخلى، يندهش فى مرارة، وأسى، ويسألنى: «أتكتبين عن الحب، فى عالم أصبح بحورًا من الدم.. على كوكب يصنع أسلحة الدمار الشامل، ويطلقها على قلوبنا، وأجسادنا، وبيوتنا، وأوطاننا؟». هذا سؤال منطقى وفى منتهى الوجاهة، والواقعية. سؤال محرج، محير، يجعل الكتابة عن الحب، نوعًا من العبث، واللاجدوى. لكننى أؤمن بأنه كلما ازداد العبث، واللاجدوى، ازدادت ضرورة التحدى، والمقاومة. وقناعتى أن اليأس المطلق من كل الأشياء، هو البداية الحقيقية، للاستيقاظ، والتحرك.
ولأننى وصلت إلى قمة اليأس، فإننى سأكتب عن ١٤ فبراير، عيد الحب، فى عالم مضاد للحب. الحب، ذلك الساحر، الذى يشفى الروح، بالفرح المستحيل، يمد الجسد بالسعرات العاطفية الضرورية، للتخلص من أمراض التملك، تذيب سِمْنة العزلة، تفتت الشهوات الجشعة. الحب، الذى يزيل عنا جميع الأثقال. نصبح فى خِفة الريشة، ونطير كنسائم الهواء، وسحابات السماء. نعبر البحور، والجبال، والأنهار، والتقاليد الحمقاء.
«الحب»، يجعل الرجل يخجل، من ميراثه الذكورى القاهر المستبد. «الحب»، يجعل المرأة، تشمئز، من ارتداء ثوب الطاعة، والخضوع. أين يذهب الحب، فى عالم شطب مترادفات الحب من لغاته؟ ذهب إلى أقلية، غير منتمية، مغتربة، بالضرورة. تقاوم فى أنبل معركة.. أن يبقى الإنسان إنسانًا، متشبثًا بإنسانيته، وسط الوحوش المفترسة.
وحتى يفوز حزب الأقلية، حزب الحب، الذى لا بد أن تكون «مى زيادة»، واحدة من الملهمات المؤسسات، التى تدفع بهذا الحزب لصنع حضارة عالمية جديدة. وهذه المشاركة غير ممكنة، إلا عندما يصبح أعضاء هذا الحزب وعضواته جزءًا، من كتابة الدساتير، وسن التشريعات والقوانين، وابتكار عادات وتقاليد جديدة وخلق إعلام، ينبذ التفرقة بين البشر، بكل درجاتها، وأشكالها. فأهل الفن والأدب، والأدباء، والمبدعات، والمبدعون، هم دائمًا قاطرة التغيير، والتقدم. وأول شىء، يجب على أنصار، وأعضاء، حزب الحب، نساء، ورجالًا، ألا يقعوا فى الوهم الشائع، أن الحب «ممكن»، بينما كوكب الأرض محاصر بالدم، والحروب، والاغتيالات، والحرائق، والتفجيرات، والتهديدات، والفتن البغيضة، والمصالح والصفقات، التى تستثمر فى المخدرات.
الحقيقة، أننا نريد أن نذهب إلى «الحب»، تلك العاطفة النظيفة، ونحن لم نستحم بالقدر الملائم. نريد أن نذهب إلى «الحب»، ذلك المتأنق، ونحن نفتقر إلى الشياكة. نريد أن نذهب إلى «الحب»، وهو الهادئ، الوديع، بكل ما أوتينا من صخب. نريد أن يحبنا أحد، ونحن لا نرى، عجزنا عن الحب. دون تغيير هذا العالم، ستظل «مى زيادة»، منسية. وسيظل «الحب» غريبًا، تقتله الوحدة والإهمال، وعد الاعتراف بالجميل. وأعتقد أن هذا هو السبب، الذى دفع «مى» إلى كتابة: «الحياة بدون الحب حياة ضائعة».. «أخاف من الحب ولا يشبعنى القليل منه». وهو السبب نفسه، الذى جعل أقاربها طمعًا فى الثروة، يتهمونها بالجنون.
من بستان قصائدى
إذا كنت لا تحبنى...
فهذه مصيبة...
إذا كنت تحبنى...
فالمصيبة أعظم.