رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كانت لنا ثورة


كانت الأيام تركب ظهر سلحفاة عجوز، وكانت السلحفاة تسير فى سفح جبل يختلط فى ألوانه الأصفر والرمادى، وانعكس هذا على الأيام التى خمدت روحها فكانت تنقضى.. راكدة، باهتة، مملة.. والكل يعرف ذلك الوضع ويتماهى معه.. لا تركب تاكسى إلا ويشتكى سائقه، لا تجلس مع مجموعة فى العمل أو النادى أو المقهى إلا وتسمع الشكوى من الفساد وضيق الحال والدائرة الجهنمية التى يدور فى رحاها المصريون فتأكل أرواحهم وتنهك أجسادهم.
كانت الشكوى علنية، صريحة، دون تورية، وكانت السخرية من النظام ورئيسه قد وصلت إلى مداها، والنكات عن شراكة أبوعلاء فى كل شىء، حتى محلات العصير ومطاعم الفول والطعمية فى أوجها، سخرية ونكات تحولت من كثرة تكرارها إلى مصدر فخر ومباهاة.. نعم نحن شعب فقير يقف على الأبواب طلبًا للمساعدات، ولكن أيًا من شعوب المنطقة لا يجرؤ أن يسخر من حاكمه أو ينكت عليه، كما نفعل، وكان العرب الذين يزورون القاهرة يحسدوننا على هذه الحرية والجرأة، وتحولت مسرحية مثل «الزعيم» لعادل إمام إلى مزار يفوق سحرها أيًا من عجائب العالم. ويبدو أن النظام قد اعتقد أن هذه السخرية آخر ما فى جعبة الذين يكملون عشاءهم «تريقة» فجعل سياسته «أخلوا بينهم وبين سخريتهم، ما أخلوا بيننا وبين مصالحنا»، وقالها كبيرهم «يلّا خليهم يتسلوا». كانوا من الصلافة والصلادة ما منعهم أن يستشعروا ما فى السخرية من مرارة تصيب بالإعياء، وسلبية تسمم النفوس والأرواح.
خلال صيف وخريف ٢٠١٠ أتيح لى أن ألتقى عددًا كبيرًا من رموز الثقافة المصرية، وناشطى حقوق الإنسان، وأجريت معهم مناقشات وحوارات معمقة عن أوضاع حقوق الإنسان السياسية فى مصر. كان هناك إجماع وشعور عام بعدم الرضا، ولم يكن الفساد قد وصل إلى الركب فقط، بل تجاوزها وغطى الجسد والعنق، وبدأ الناس يتذوقون عفنه ويتنفسونه. كان هناك إحساس غائم بأن هذا الوضع المكتوم لن يستمر طويلًا، ولم تكن هناك رؤية واضحة لطريق الخروج، وكان هذا ما يضاعف السخط، فمبارك استطاع أن يجرف الحياة السياسية ويفسد كل رموزها، بحيث باتت الثقة معدومة فى أى شخص يشارك فى العمل السياسى.
أتذكر لقائى بالناقد «سمير فريد» فى أحد مطاعم الزمالك، يوم الأربعاء، أو ربما الخميس قبل الثورة بساعات، وتشعب الحديث من فساد السيدة الأولى وسيطرتها على الوزراء، إلى حالة التماهى الرئاسى لجمال مبارك، حتى إنهم ينادونه «ياريس»، فأقسمت له غيظًا أن جمال لن يتولى رئاسة مصر، وأوضحت له أن جمال مبارك ابن رئيس الجمهورية الذى ظل عازبًا أربعين عامًا، لم يكن يومًا فتى أحلام البنات، ولم يكن موضوعًا لجلسات نميمة وتخيلات صبايا، فالشاب الذى لم يملأ عيون الشابات ولم يقض مضجع الرجال غيرة، لا يمكن له أن يحكم مصر. كان جمال مبارك.. بعيدًا.. باردًا.. بلا ملامح تسكن فى الذاكرة، لا تبدو عليه «جدعنة» أولاد البلد ولا مفهومية ابن «الحتة»، وليست لديه رجولة الصعايدة ولا شهامة ونخوة الفلاحين، يذكرنى إذا ما جردته من بدلته بأى نفر من عساكر الأمن المركزى.. غلبان.. وحيد، تائه وهو ينظم إشارة ميدان لا يعرفه، تطل عليه عمارات لا يمكن أن يقطنها، وعربات لا يمكن أن يركبها. كان يمكن للمصريين ألا يثوروا على مبارك الأب وأن تظل الثورة فى نطاق مظاهرات المثقفين وناشطى حقوق الإنسان دون أى ظهير شعبى لو أن مبارك حجب ابنه، وفرمل طموحه.. فالمصريون يمتلكون إيمانًا راسخًا بالقدر والمكتوب، وكان واضحًا أن مبارك هو قدرنا، وكان يمكن لنا أن نتحمل ابتلاء الله وننتظر ساعة الخلاص الربانى على يد ملك الموت. كانوا يعرفون أن مبارك الأب فرعونًا، لكن أهراماتهم كانت تؤكد لهم أن الفراعنة يموتون ويقبرون، وكان المستقبل غامضًا ولكن الإيمان بعدالة السماء كان يجعلهم يؤمنون بأنه سيكون أحسن دون أى تصور أو تخطيط، نحن شعب التعميمات الكبرى والشيطان دائمًا فى التفاصيل، لذا لا نهتم بها إلا عندما نغرق ونتأكد أننا نزلنا البحر وقد نسينا أن نتعلم العوم، أو حتى نشترى سترة نجاة أو عوامة أطفال.