رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إيطاليا.. فرنسا.. واستعمار إفريقيا



انتهينا، أمس، إلى أن سيلفيو برلسكونى، قد يعود إلى رئاسة الحكومة الإيطالية، ليس بسبب قدرته على تسويق نفسه، معتمدًا على قنواته التليفزيونية الثلاث وصحفه ومجلاته، وليس لأن المشهد السياسى الإيطالى يحتاجه أو يناسبه، ولكن لأن الاتحاد الأوروبى، الأسواق المالية، و«عائلات البلاد» وشركاتها، لن تسمح بوأد النظام السياسى الذى حكم إيطاليا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وستظل تسعى باستماتة لإعادة، ورعاية، الرجل الذى كان الفساد هو العنوان الأبرز لحكوماته الثلاث، واضطر إلى التنّحى عن الحكم، بعد ملاحقات قضائية متتالية، وفضائح جنسية، قبل أن تتم إدانته قضائيًا فى جرائم فساد مالى وتهرب ضريبى.
بالتزامن، قامت الخارجية الفرنسية باستدعاء تريزا كاستالدو، سفيرة إيطاليا لدى باريس، يوم الإثنين، على خلفية تصريحات أدلى بها لويجى دى مايو، وزير العمل والاقتصاد، نائب رئيس الوزراء الإيطالى، طالب فيها الدول الأوروبية بأن تتحلى بالشجاعة وتتخذ مواقف حاسمة لإنهاء الاستعمار فى إفريقيا، ودعا الاتحاد الأوروبى إلى فرض عقوبات على فرنسا لأنها «لم تتوقف عن ممارساتها الاستعمارية التى تسببت فى إفقار عشرات الدول الإفريقية، وفى تدفق المهاجرين منها إلى أوروبا بأعداد كبيرة». مع تصريحات أخرى، ذكرتها وكالات أنباء، بينها وكالة أنسا الإيطالية، بأن مصادر دبلوماسية فرنسية أدلت بتصريحات وصفتها بأنها «عدائية» و«صدرت بلا سبب».
التصريحات عدائية فعلًا، لكن هناك بدل السبب، ثلاثة على الأقل، أبرزها ذلك التنافس أو الصراع بين الدولتين بشأن الأزمة الليبية، ومحاولة كلتيهما انتزاع نصيب أكبر من «الكعكة» التى تريد الولايات المتحدة أن تنفرد بها، ونقصد مخزون النفط الليبى. وسبق أن توقفنا أمام هذا الصراع، فى نوفمبر الماضى، وقت انعقاد مؤتمر باليرمو، وأوضحنا كيف أنه يطيل الأزمة ولا يحلها. واستمرارًا لهذا الصراع أو التنافس، قال ماتيو سالفينى، وزير الداخلية، نائب رئيس الوزراء الإيطالى، للقناة الخامسة الإيطالية، الثلاثاء، إن «فرنسا لا ترغب فى تهدئة الأوضاع فى ليبيا، بسبب مصالحها النفطية». وغير تنافسهما أو صراعهما بشأن ليبيا، هناك صدامات متكررة بين البلدين بسبب اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين.
دى مايو، هو زعيم حزب حركة «النجوم الخمس»، التى تأسست منذ تسع سنوات، لتكون بديلًا للأحزاب والمنظومة السياسية السائدة، وفاز فى الانتخابات الماضية بأكثر من ٣٢٪ من الأصوات، أى بأكبر كتلة نيابية لحزب واحد. وبتحالفها مع حزب «رابطة الشمال»، الذى يقوده «سالفينى»، نجحت فى تشكيل الحكومة الحالية، الحكومة رقم ٦٧ بعد الحرب العالمية الثانية، وهو التحالف الذى زعم «برلسكونى»، وهو يعلن اعتزامه الترشح لانتخابات البرلمان الأوروبى، أنه مناقض لطبيعة السياسة الإيطالية، وأكد أن أيام هذا التحالف أصبحت معدودةً، لأنهما قوتان متناقضتان، لم تتحالفا إلا من أجل السلطة. وأضاف: «سأضع حدًا لهذه الحكومة التى تدفع بالبلاد نحو المجهول كما فعلت سنة ١٩٩٤، عندما وضعت حدًّا للشيوعيين وحلفائهم».
يرى «دى مايو»، طبقًا للتصريحات التى أدلى بها، يوم الأحد، أن الأفارقة ينبغى أن يعيشوا فى إفريقيا، لا فى قاع البحر المتوسط. وبالتالى، شدد على ضرورة أن يقوم الاتحاد الأوروبى بفرض عقوبات على فرنسا وجميع الدول التى تسببت (ولا تزال) فى إفقار إفريقيا ودفعت الأفارقة إلى مغادرتها. موضحًا أن السبب الأساسى الذى يدفعهم إلى ذلك هو أن دولًا أوروبية، وفى مقدمتها فرنسا، لا تزال تستعمر عشرات الدول الإفريقية. وأنه لولا ذلك، لكان الاقتصاد الفرنسى فى المركز الخامس عشر بين اقتصادات العالم، لا بين الستة الأكبر. وبوضوح، اتهم باريس بأنها تتلاعب بالاقتصادات الإفريقية، التى لا تزال تستخدم الفرنك الفرنسى.
قبل ١٠ سنوات وأيام، كان «الفرنك» هو العملة الرسمية لفرنسا، وبظهور اليورو، فى أول أيام سنة ١٩٩٩، صار هو العملة الرسمية الموحدة لحوالى ٨٠٪ من دول الاتحاد الأوروبى التى توصف بـ«منطقة اليورو». ثم خرج الفرنك، فى ٢٠٠١، من التداول بشكل نهائى، داخل فرنسا، لكن وزارة الخزانة الفرنسية استمرت فى طباعته، لصالح عدد من الدول الإفريقية، التى لا تزال تستخدم تلك العملة، منذ كانت تحت الاحتلال الفرنسى. الأمر الذى أكد «دى مايو» أنه يعرقل التنمية الاقتصادية فى تلك الدول، ويسهم فى إجبار مواطنيها على مغادرة بلادهم، فيكون مصيرهم إما الموت فى قاع البحر، أو الوصول إلى الساحل المقابل.
.. وأخيرًا، أتمنى أن تكون لاحظت أن تصريحات «سالفينى»، زعيم حزب «رابطة الشمال»، التى جاءت بعد يومين من تصريحات «دى مايو»، زعيم حركة «النجوم الخمس»، تنفى مزاعم «برلسكونى» عن هشاشة التحالف الحاكم، بين الحركة والحزب، الذى لا نراه، كما رآه، مناقضًا «لطبيعة السياسة الإيطالية»، بل لـ«طبيعة النظام السياسى» الذى حكم إيطاليا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والذى قلنا ونكرر إن الاتحاد الأوروبى، الأسواق المالية، و«عائلات البلاد» وشركاتها، لن تسمح بوأده، وتستميت لإعادته.