رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السد العالى.. والعاصمة الإدارية


«من يقرأ التاريخ جيدًا يمكنه بناء حاضر ومستقبل مشرق»، هذه مقولة ثبتت صحتها على مر العصور، فهناك مشروعات عندما تُطرح لأول مرة ويتم تنفيذها على أرض الواقع تصيبها «سهام الهجوم الجامحة» غير المبررة والتى تحركها غالبًا مواقف سياسية متغيرة غير مبنية على أسس علمية أو واقعية.
رغم الفارق فى الأهداف بين مشروع السد العالى ومشروع العاصمة الإدارية الجديدة، فكلاهما يستهدف الخروج بمصر من عنق الزجاج.. فالسد العالى كان هدفه الرئيسى تأمين احتياجات مصر من المياه وعدم وقوعها تحت رحمة الفيضانات العالية التى كانت تطغى على الأراضى المصرية لتحولها إلى ما يشبه الجزر أو موجات الجفاف التى كانت تحول أيام مصر إلى «سنين عجاف»، ورغم العقبات التى واجهت مشروع السد العالى بداية من التآمر الدولى للإجهاز عليه وحتى الهجوم الذى شن عليه بعد إنشائه من قبل البعض فى الداخل، لدرجة أن البعض ذهب فى الهجوم عليه إلى أمور هزلية كأن قال أحدهم: «إن بناء السد العالى منع من يجلسون على كورنيش النيل فى القاهرة من التمتع بجمال مياهه وأسماكه».
ورغم ذلك مضت القيادة السياسية برئاسة الراحل جمال عبدالناصر فى طريقها وبدأت فى إجراءات إنشاء «السد العالى».. فبعد سحب الولايات المتحدة الأمريكية عرضها بتمويل مشروع السد، ردت الحكومة المصرية بتأميم شركة قناة السويس وتحديدًا فى ٢٠ يوليو من عام ١٩٥٦، وفى ٢٧ ديسمبر من عام ١٩٥٨ وقعت مصر والاتحاد السوفيتى على الاتفاقية التى تعهد فيها السوفييت بتقديم المساعدات الاقتصادية والفنية لمصر لبناء السد العالى.
وفى ٩ يناير من عام ١٩٦٠ قام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بافتتاح العمل فى المشروع، وفى ١٥ مايو من عام ١٩٦٤ تم الاحتفال بتحويل مجرى النيل ومرور المياه فى قناة التحويل فى البر الشرقى للنيل.
وفى أكتوبر من عام ١٩٦٧ بدأ تشغيل الوحداث الثلاث الأولى لتوليد الكهرباء بمحطة كهرباء السد والخط الناقل للكهرباء إلى القاهرة.. ومع حلول ١٥ يناير من عام ١٩٧١ افتتح الرئيس الراحل محمد أنور السادات مشروع السد العالى بعد الانتهاء من تنفيذه بالكامل بسعة تخزينية تصل إلى ١٦٤ مليار متر مكعب، وبلغت تكاليف إنشاء المشروع نحو ٤٥٠ مليون جنيه، فى حين بلغت المكاسب التى يحققها السد سنويًا نحو ٢٥٥ مليون جنيه.
وإلى جانب ملحمة بناء السد العالى كانت هناك ملحمة أخرى وهى إنقاذ آثار النوبة من الغرق بعد البدء فى بناء السد، وبدأت فى ٨ مارس من عام ١٩٥٨ بعد موافقة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» على انطلاق الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة وعلى رأسها معبدا أبوسمبل وتم بالفعل نقل المعبدين إلى المكان الجديد بعد تقطيعهما والانتهاء من تركيبهما من جديد فى نوفمبر من عام ١٩٦٦، وتكلفت عملية النقل نحو ٣٦ مليون دولار دفعت الحكومة المصرية ثلثها والولايات المتحدة الأمريكية ثلثها، وأسهمت بعض الدول والهيئات بالثلث المتبقى.
وكانت للسد العالى فوائد كبيرة وجليلة، منها أنه نظم إيقاع نهر النيل وحوّله إلى قناة رى ضخمة أمدت الزراعة فى مصر باحتياجاتها من المياه بصورة لم يسبق لها مثيل، كما أنه أوقف المياه التى كانت تذهب هدرًا إلى البحر الأبيض المتوسط وجعلها فى خدمة مصر والسودان، طبقًا لاتفاقية ١٩٥٩ الموقعة بين البلدين، كما حمى مصر من مخاطر الفيضانات المرتفعة والمنخفضة وظهرت أهمية السد فى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى، عندما ضربت موجة الجفاف والمجاعات دول منابع النيل، حيث حمى مخزون السد من المياه مصر، وفى حالة عدم وجود هذا المخزون لكانت مصر قد فقدت مساحات كبيرة من أراضيها الزراعية وتعرضت للمجاعات ولتأثرت سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، فضلًا عن إمداده مصر بالطاقة الكهربائية.
هذا عن فوائد السد وبالطبع لكل مشروع عيوبه ومنها السد العالى، لكن عيوبه لا تقارن بالأساس بفوائده.. فعيوبه محدودة ويمكن تداركها ومنها أنه أعاق المسار الطبيعى لنهر النيل وغيّر من توازناته بطريقة تحتم على الإنسان المصرى أن يتعايش معها، بالإضافة إلى نحر مجرى النهر وفقدان الطمى، فضلًا عن تهجير أهالى النوبة الذين وإن هجروا إلى مناطق أفضل فى كوم أمبو، لكنهم ما زالوا يحنون إلى موطنهم فى النوبة.
وبالتالى ففوائد السد العالى تجب وتمحو أى سلبيات. ونفس الأمر يتكرر مع العاصمة الإدارية الجديدة التى أرى أنها ستمثل إضافة حقيقية للعمران المصرى وبما يفتح آفاقًا رحبة للاستثمار ستعززها شبكة الطرق الجديدة، ما سيتحقق معه رفع مستوى المعيشة للمواطنين.