رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبده العبيط

جريدة الدستور

لم يحبونا وكان ذلك طبيعيًا، فالشياطين الصغار لا يحبون من يختلف عنهم، ولذلك لم يحبونا، لا أنا ولا عبده العبيط، وها أنا أذكره بالاسم هذا وكأنه اسم أبيه فعلًا، فقد نسى الجميع اسمه الحقيقى، ذلك لأننا رغم كوننا مختلفين، كنت أنا أدارى اختلافى، بينما كان حلمه يطفح عليه ويفضحه، فمنذ الطفولة كنا الاثنين فى الشوارع ننعزل عن اللعب، كنت أنا أقف وأراقب من فى الشارع والأرض كلها، وظلت تلك هوايتى دائمًا، وكان هو يراقب السماء حتى اشتهر بالعبط وأصبح مسخرة كل صبى فى أبوأشرف وربما دار السلام كلها، لم يكن أحد منهم يستوعب كيف أن صبيًا فى بدء المراهقة يراقب طيور السماء وكلما شاهد سرب حمام راجعا فى ساعة العصر التى يكون إنهاكنا فيها من لعب الكرة قد بلغ مداه نراه فى قمة نشاطه يجرى ويضم ذراعيه على شكل جناحين ويرفرف سريعًا وكأنه سيطير فعلًا، لم أقدر يومًا على الدفاع عنه ولا حتى عن نفسى، فى تلك الفترة التى كنت فيها قد بدأت أن أتثقف - وأتثاقف أيضًا بحيث زاد كثيرًا عدد من لا يحبوننى- اكتفيت بأن أبتسم له كلما رأيت محاولاته فى التحليق وأدندن بخفوت - حتى لا يظنوا بى العبط أنا الآخر- «طيرى يا طيارة طيرى يا ورق وخيطان... بدى أرجع بنت صغيرة على سطح الجيران» وأنظر له برضا يفهم منه عبده أنى أدرك أنه ليس عبيطًا على الإطلاق، وأن كل ما فى الأمر أنه يريد أن يصل إلى السماء.
فى الثانوية كان عبده يقترب من الحلم اقترابًا جعله يتشكل على قده جسمًا وروحًا، برزت عضلاته واكتمل بناؤه فى تدريبات لم نكن نطيقها نحن حين كنا نمر بمراحل الاكتشاف الأولى التى قفز فوقها عبده، فلم يجرب السجائر الفرط أو البانجو فى المناسبات والوقوف بالساعات على النواصى والعين على بروزات أى أنثى، لم يمر بتلك المراحل التى استغرقت منا سنوات ومنها إما إلى إدمان البرشام أو إلى حلم الهروب إلى دولة أخرى أو إلى جنة الآخرة، ظل متصلًا بالسماء وله على الأرض قدمان راسختان يحملان جسدًا ينتظر أن يحارب فوق السحاب ويردع أعداءه فتوارى لقب العبيط إلى حين، وفى يوم من عام الآمال الكبرى خاض حربه الأولى على أرض الكلية الجوية التى يكاد يحفظ نوع كل طائرة حطت على أرضها منذ دخل الطيران مصر؛ حدث ما كان متوقعًا بالنسبة للجميع فيما عدا عبده نفسه، وعلى الرغم من لطمة كشف الهيئة التى تلقاها لم يطل به الذهول (حيث كانت له روح الطيار المقاتل وكانت الآمال لا زالت لم تهبط إلى حضيضها فى عام الثورة الأول) فقرر التوجه إلى الطيران المدنى وسأل تفصيليًا عن التقديم لأكاديمية الطيران ثم كلية هندسة الطيران حتى تظل له علاقة بالسماء حتى ولو لم يطر بنفسه، وحين عرف التكاليف استبعد الاثنين معًا بعد تفكير عميق استغرق حوالى ساعتين.
فور انتهاء دراستى الجامعية تركت المنطقة والبلد وهربت، وكان هذا نجاحى الوحيد، فرح من أجلى أصدقاء قلائل وحسدنى آخرون لا أتذكر عددهم إلا أنى لم أستطع يومًا أن أعتز بنجاحى هذا، ولم أستطع طوال كدحى فى الخارج أن أهرب من الأيام البواكر ومن افتقادى الأرض التى كنت أراقبها كما لا بد أن عبده العبيط افتقد السماء مثلى أو أكثر، وفى أول إجازة لى نزلت فيها إلى مصر وجدته أمامى فور أن دخلت المنطقة، ربما ظهر لى للتو لأنه يعرف أنى أفهمه قليلًا وأحب عبطه الشهير، على وجهه كبرياء مرير كالذى كنت ألمحه على وجوه المحاربين القدماء وهم واقفون فى أكشاك السجائر التى افتتحتها لهم الحكومة بعد المعاهدة، وعلى جانبى التوك توك الذى عمل عليه واشتهر به كشهرته الأولى جناحان صغيران يحلق بهما فى المنطقة، وعلى الظهر كتب بحروف بيضاء كبيرة، وخط واضح، واثق: «عبده الطيار».
من مجموعة: عبده العبيط