رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفابريكة

جريدة الدستور

واقفًا فى وجه الساعة يطرح سؤال الهوية، مَن أكون؟ العقارب تجرى على غير إرادته نحو العام الرابع والثلاثين. تدق اثنتى عشرة دقة. يرفع كأسه، نخب أربعة وثلاثين عامًا مجيدة بخوائها.
بانتهاء الكأس ينتهى احتفال منصور بعيد ميلاده. وضع الكأس فى الحوض بجوار كئوس وأطباق مكومة كمشاريع غسيل مؤجلة منذ أزمان طال أمدها، ودخل لينام. أفسح لجسده مكانًا على الفراش، بين كتبه ومجلاته العلمية، وتمدَّد. وخزه كائن معدنى فى جانبه. مد اليد يستخرجه من بين تموجات الملاءة، كان هاتفه. تذكر المكالمة المحبطة التى أجراها منذ قليل. ألقاه فوق كومة الملابس التى خلعها عن جسده للتو على الأرض. الهواء المنعش يعبر النافذة المفتوحة على ليلة صيف جبلية. وحدها لحظة انتعاش كتلك، وحدها دفقة كتلك من هواء لم يتعرض بعد لانتهاكات البشر، يجد فيها منصور إجابة لسؤال: ماذا أفعل هنا؟
النوم يشاكسه. لديه يوم طويل غدًا من الأبحاث فى الفرن الشمسى. عليه أن يرتاح. يكفيه- عذابًا للجسد- سهره حتى منتصف الليل. ولكن النوم عنيد كرأس آنيت ابنة مسيو بلان الجزار. ينهض إلى النافذة. يملأ صدره بالهواء. يتأمل برج كنيسة سان مارتين الأثرى المنتصب فى الظلام غير بعيد عنه. الشوارع خالية والقرية هادئة. أهلها ينامون مبكرًا فى ليالى منتصف الأسبوع. فندق البومة، الفندق الصغير الشعبى، لا يصدر عن جسده الرابض فى الظلام فى زاوية شارع الحرية، على مرمى بصره، أى وهج إضاءة. يعرف أن مطعم الفندق أغلق أبوابه الآن، وجمع الطاولات المتناثرة على الطوار أمام بابه. على واحدة من تلك الطاولات تناول عشاءه الليلة مع آنيت.
منصور كان الليلة صامتًا، وآنيت كانت كعادتها ثرثارة. كعادتها كانت جميلة، دقيقة الملامح كأميرات ديزنى، كعادتها كانت تنثر حولها ذلك الألق بغير جهد منها أو تكلف. مؤمن هو ببراءتها، وطهر الطفولة فى قلبها، وإن تمنى كثيرًا أن يخيب ظنه، ربما لو اكتشف أنها مدعية، أنها محض فتاة وصولية خبيثة النوايا، لبات أكثر سعادة واتساقًا مع ذاته. الليلة جلس يستمع إليها، بين إنصات وشرود، بين ضحكات ووجوم، حسبما تقتضيه كلماتها، أو اتباعًا لتعبيرات وجهها. هل يخبرها أن اليوم عيد ميلاده؟ منصور قضى أغلب الوقت الليلة شاردًا وراء جواب لهذا السؤال. الغريب أنه- وبعد أن غادر آنيت أمام منزلها بأكثر من ساعتين- لم يجد الإجابة. هو لم يخبرها بالطبع، ليس لأن هكذا كان قراره، وإنما لأنه انشغل بالتساؤل نفسه، حتى انتهى لقاؤهما وأضاع الفرصة.
ربما منصور لا يستطيع أن يصف بكلمات بسيطة علاقته بآنيت. فتاة جميلة ورقيقة وهذا لا شك فيه. تحبه؟ منصور لم يشك لحظة فى تلك الحقيقة، حتى وإن بدت له غريبة. فى العاصمة الصاخبة حيث نشأ وعاش حياته، ليس من المعتاد أن تتشكل قصص الحب فى أيام. الحب من النظرة الأولى هو فى أغلب الظن أسطورة شرقية، لا علم لهم بها فى بلاد النور، حيث انجذاب الرجل لجسد المرأة، أو العكس، غير مجبر على التخفى خجلًا فى شكل علاقة «محترمة»، كالحب مثلًا. منصور لذلك كان يمكن أن ينفر من فتاة تحدثه عن إعجابها به بعد يومين فقط من تعارفهما. كان يمكن أن ينسج الخيال حكاية عن البنت الريفية، ابنة الجزار المتواضع، التى وجدت فى الشاب القادم من باريس وسيلة مواصلات إلى عالم أكثر براحًا من العالم الضيق، الرتيب، الخانق للأحلام، كعالم تلك القرية النائمة فى أحضان جبال البرانس قرب الحدود مع إسبانيا. ولكن منصور كان أكثر نقاءً من أن يفكر بتلك الطريقة. هو يؤمن أن الفتاة- التى تصغره باثنتى عشرة سنة- صادقة. مشاعرها لا تبدو له مصطنعة، والأهم أن مشاعره لا تبدو له جامدة. هناك شىء ما يتحرك متمددًا نحوها، شىء فى قلبه تحديدًا، رغم أنه ينكره فى ليالى الوحدة مع النفس. أمامها هو يدعى التجاوب، يحدثها عن مبادلة الإعجاب بمثله، يمكن أن ينجرف معها فى الحديث عن أحلامها المرسومة باقترانهما غالبًا. يمكن أن يداعب خيالاتها، يؤججها، يشعلها حد الاحتراق، بأحلام الحياة فى مدينة النور، وهى تحلق فى أعقاب كلماته. منصور بدأ الأمر كلعبة، عندما تقابلا للمرة الأولى فى نفس المكان القريب من بيتيهما «مطعم البومة» لم يكن الأمر فى نظره أكثر من تسلية. الوقت لا يمر فى هذه القرية، والبنت الجميلة شقراء الجدائل، التى رآها مرتين مصادفة عند مدام كوليتا صاحبة البيت الذى يسكنه وهى توصل لها احتياجات الساكنين من اللحوم. البنت التى سلطت على قسماته عينين فى زرقة السماء واتساعها، كانت تصلح كحجر يموج الماء الراكد حوله، فلماذا يهرب من الفرصة؟! أولى كلماته لها كانت دعوة على العشاء. وأول كلماتها له كانت بالقبول المزدان ببسمة طفلة نزقة. الأزمة التى يعيشها منصور الآن تتمثل فى فقدان قلبه لليقين الصادق بزيف الحالة. الآن هو يبذل جهدًا ليقنع نفسه بأن آنيت ليست أكثر من لعبة لقضاء الوقت، فقلبه بات يفاجئه بدقات زائدة حين اللقاء، حين رنين الهاتف باسمها. مرة، دعا الله أن تكون الدقات الزائدة دلالة لمرض وليست لما يخشاه!
مقطع من رواية «الفابريكة»