رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"سينما ثورة يوليو".. تصورات الرئيس" نجيب" على الشاشة

جريدة الدستور

كان الرئيس محمد نجيب رئيس الجمهورية بعد ثورة يوليو 1925، هو الواجهة التي يُعبر من خلالها عن تصورات ضباط الثورة تجاه السينما، وما يجب أن تكون عليه الشاشة أمام المتفرجين، فتبلوت هذه النظرة نحو الإتجاه إلى السينما التثقيفيه المسلية، والبعد عن الخلاعة والميوعة وخصيصًا أفلام ما قبل الثورة. وهو ما عكس إهتمام رجال الثورة بدور السينما ووعيهم بتأثيرها على الجماهير.

التغيير الاجتماعي المؤكد لثورة يوليو 1952 فرض نفسه على صناعة السينما وعلى أذهان المؤلفين والمخرجين، فطرات موضوعات جديدة على الساحة، مشاكل المرأة العاملة، الحب، وظهرت "الواقعية" في حلة جديدة على يد صلاح أبو سيف، وظهرت أفلام الطبقة المتوسطة، كما حضر إسماعيل ياسين على الشاشة بقوة من خلال إنتاج سلسلة من الأفلام الدعائية للجيش المصري، كانت بمثابة دعاية واضحة وذكية وإعلامية تدلل على إمكانيات الجيش وقدراته.

حتى صورة "البطل" تغيرت مقاييسها، لم يعد ذلك الشاب الوسيم المفرط في الرومانسية الخيالية، بل أصبحت ملامحة مصرية خالصة، شعبية، وبسيطة، وكان أبطال هذه الصورة شكري سرحان، صلاح ذو الفقار، كمال الشناوي.

ارتفع متوسط عدد الأفلام المصرية الروائية الطويلة بعد ثورة يوليو إلى 60 فيلمًا في السنة حتى عام 1962، بلغ عدد الأفلام 588فيلمًا، أي نحو ضعف عدد هذا النوع من الأفلام من عام 1927، ووصل عدد دور العرض إلى 354 دارًا عام1954.حسبما نُشر في البيان الكويتية 1982.

السينمائيون يقابلون بيانات "نجيب" بانفعالات عاطفية فقط

بعد ثورة 1952 بأربعين يومًا، أصدر الرجل الأول محمد نجيب بصفته رئيس الجمهورية بيانًا للسينمائيين تحت عنوان"الفن الذي نريده"، بدا فيه أن السينما وسيلة للترفيه والتثقيف، وحذر من إساءة استخدامها حفاظًا على من وقوع الشباب في الهاوية. حسبما ذكر محمد كامل القليوبي في مقابلة شخصية 1989.

وبعد بيان الرئيس "نجيب" بشهرين، نشر في مجلة "الكواكب" مقال بعنوان"رسالة إلى الفن"، أشار إلى أن السينما في عهد الملكية كانت تصور الميوعة والخلاعة، فلم يخلو فيلم في هذه الفترة إلا وظهرت فيه راقصة بل وأقحم وجودها إقحامًا، وأوضح أن موقف الثورة الجديد يرفض هذه السينما رفضًا قاطعًا، كما بيّن دور الفنانين ومسؤليتهم الضخمة في التأثير على الجمهور، ولم ينس إحتياج هذه الصناعة للتمويل اللازم لصنع أفلام كبيرة تجسد شعارات الثورة.

ويبدو أن اهتمام ثورة يوليو بالسينما ودورها كان شديدًا، فلم يتوقف الأمر عند توجيه الكلمات وكتابة والمقالات وإصدار البيانات، بل تبع ذلك عدة قرارات عليا، فصدر قرار بتشكيل لجنة على رأسها وجيه أباظة، لترتيب لقاءات بالسينمائيين لوضع تصور للدور الذي ستلعبه السينما في الفترة المقبلة، ولم يتوانى المخرجين وقتها في إظهار رغبتهم الكاملة في توفير كافة إمكانياتهم لخدمة هذا العهد "عهد ثورة يوليو". فرد على ذلك الرئيس "نجيب" ببيان جديد في يناير 1953، أشار فيه إلى أن المعاني والمشاعر الوطنية في نفوس الفنانين متقدة، وعقولهم مدركة لواجبهم الذي يحتم عليهم الوقوف في صفوف النهضة، وتشكيل بناء جديد، بناء النهضة.

واجتمعت اللجنة، ووصل الأمر إلى درجة من المبالغة الكبيرة فارتدى بعض السينمائيين الزي العسكري، ربما نفاقًا أو ترحيبًا لضباط الثورة، وسرعان ما تعارضت آراءهم، فالغلبة كانت تتجه نحو أفلام التسلية والترفيه، وكان أحمد بدرخان، حسن رمزي، من أصحاب هذا الاتجاه، وعلّق المخرج محمد كريم على توجيهات وجيه أباظة مندوب القيادة قائلًا: "هل يمكننا إخراج خمسين فيلمًا عن الثورة وأهدافها؟ فهذا من شأنه أن يصيب المشاهدين بالملل"، فتدخل "بدرخان": "إننا نقر حضرة المندوب القيادة العامة أن السينما يجب أن تنتقل إلى منحى جديد نحو توجيه الشعب وتثقيفه، لكن مع الحرص على تسليته"، فقال "رمزي": نحن شعب مرح فلابد من وجود أفلام للتسلية والترفيه، وليس معنى النهوض بالسينما أن تكون أفلامنا حزينة.

لكن المخرج صلاح أبو سيف طالب بضرورة تدخل الدولة في السينما، ووافقه على ذلك حسين صدقي، واكتفى يوسف شاهين بالاستماع دون إبداء أي تعليق.

وبهذا يتضح أن تلك العاطفة التي قابلوا بها بيانات "نجيب" كان حماسية فقط، فوصل الأمر باللجنة إلى توقف اجتماعاتها وأحاطتها المشكلات.

"السينما تترقب".. التناول الأول لأحداث ثورة يوليو

مرت الأحداث وتواترت، إلى أن تولى جمال عبد الناصر حكم البلاد، وبدأ بعض السينمائيين بإيهام قادة الثورة أنهم يعملون تحت شعارات الثورة، وكان هو التناول الأول في السينما لثورة يوليو، فسارع حسين صدقي بتقديم فيلم"يسقط الاستعمار"، ومر موسم 1953 بنصيب 62 فيلمًا دون ظهور فيلم واحد يؤيد أو يبارك ثورة يوليو، أو حتى يشير إليها من قريب أو بعيد، وأخذت السينما موقف المترقب.

وإن كانت نهايات الأفلام تتغير بما يتوافق مع أهواء الثورة وعهدها الجديد، فالمخرج محمد كريم استكمل فيلم "زينب" بمشهد تؤكد فيه البطلة المريضة أنها ستذهب للعلاج في الوحدة الصحية الجديدة، في إشارة إلى أن الحكومة ترعى من لا أهل له، أما فيلم "عفريت عم عبده" لحسين فوزي، الذي انتهى تصويره قبل قيام الثورة، قرر مخرجه أن يقحم أحداث الثورة عنوة، فالفيلم يحكي عن رجل قتل وظهر له عفريت قادر على معرفة أخبار المستقبل قبل أن تقع، ويظهر العفريت حاملًا صحيفة تحمل أحداث الغد، وكانت هي قيام الثورة، ثم تظهر الدبابات نحو قصر عابدين لمحاصرته. حسبما ذكر أحمد عبد العال في مجلة الفنون 1984.

"الضابط" هو البطل.. و"الواقعية"هي التحول الجديد بعد الثورة

كان التحول الأهم بعد الثورة في علاقة الفيلم المصري بالجمهور، هو اتجاه "الواقعية" كاتجاه مؤثر، على الرغم من عدم انقطاع الجانب الآخر "التجاري الاستهلاكي". حسبما ذكر سمير فريد، في البيان الكويتية 1982.

والتغيير الاجتماعي الناتج عن ثورة يوليو أثرًا على أذهان السينمائيين، فتطرقوا لموضوعات جديدة تعبر عن المرحلة بكل أفكارها المختلفة عما سبق الثورة من أفلام الحب المستحيل بين أبناء الطبقات المختلفة والتي كانت بمثابة مخدر للطبقات الفقيرة من خلال النهايات الرومانتيكية التي تظهر الفقر كونه فضيلة من الفضائل التي تجعل المُحب يتنازل عن ثروته وجاهه من أجل الحبيبة، وكان دور هذه الأفلام إخماد مشاعر الفقراء حتى لا يثوروا على الطبقات الأعلى شأنا.

الضابط يتزوج في نهايات أفلام ما بعد الثورة من فتيات الأسر الأرستقراطية التي تمثل العهد الفائت، وكان ذلك تجسيد لانتصار للثورة.

فبداية من موسم 1954، "الضابط" هو بطل على شاشة السينما، وكان فيلم "رد قلبي" لعز الدين ذو الفقار 1957، وفيلم "الله معنا" 1955، ذروة تجسيد هذه الظاهرة الجديدة.

ونجح صلاح أبو سيف في أن يجعل للواقعية وجودًا حقيقيًا في الفيلم، فمن خلال فيلم "الأسطى حسن" 1925، أظهر فيه التناقضات الطبقية في القاهرة، وفي "ريا وسكينة" 1953، "الوحش" 1954 أحداث حقيقية لها دلالات اجتماعية، وفي "شباب امرأة" 1956 عبر عن الدوافع الجنسية بشجاعة، وحطم كثير من المسلمات السائدة.

وبلغ "أبو سيف" ذروته الأولى بفيلم "الفتوة" فحلل من خلاله البناء الداخلي الرأسمالي ببساطة عميقة، وبراعة فنية كبيرة، وقدم في فيلم "بين السماء والأرض" تجربة فنية جديدة، ثم بلغ ذروته الثانية في فيلم "بداية ونهاية" 1960 عن رواية أديب نوبل نجيب محفوظ.

وإذا كان فيلم "العزيمة" لمخرجه كمال سليم 1939 هو فجر الواقعية في الفيلم المصري، فإن "درب المهابيل" أول أفلام توفيق صالح 1955، هو وصول هذه الواقعية إلى مرحلة النضج، فـ"صالح" هو أول نتاج لثورة يوليو في الفيلم المصري.حسبما أشار"سمير فريد" في البيان الكويتية 1982.

الروح النضالية الحقيقية بعيدة عن شاشة سينما الثورة

إلى أن تداخلت الأمور ما بين أفلام تتناول الثورة والأفلام الوطنية، وهي أفلام الكفاح ضد الاحتلال والاقطاع مثل "مصطفى كامل" 1952، وكان قد منع من العرض قبل الثورة، "ضحايا الاقطاع" لمصطفى كامل البدوي 1955، "سجن أبو زعبل" لنيازي مصطفى، "بورسعيد" لعز الدين ذو الفقار 1957، "أرض السلام" كمال الشيخ 1957، "الله أكبر" إبراهيم السيد 1959، "وطني حبي" حسين صدقي 1960، "عمالقة البحار" السيد بدير 1960 وهو عن حرب 1956.

لكن الأفلام الوطنية جاءت خالية من أي روح نضالية حقيقية، فظهرت منذ بدايتها مستغلة لتواريخ الأحداث الكبري في مصر، حرب 48، حرب 56، استغلالًا تجاريًا ألغى دلالتها السياسية والوطنية، فجاءت في نفس الإطار الميلودرامي التلقيدي السائد في السينما المصرية القديمة، الذي يعتمد على المصادفات والمفاجآت الساذجة، العاجز عن تنوير الوعي، ومحاولة فهم الواقع. حسبما ذكرت "درية شرف الدين" في "السياسة والسينما في مصر 1961-1981".

ففي فيلم "أرض الأبطال" لنيازي مصطفى 1952، الذي تم تصويره في العريش بعد أشهر قليلة من الثورة، وبإذن خاص من البكباشي جمال عبد الناصر، تعرض لمسألة الأسلحة الفاسدة، واحتوى على عدة مشاهد عن الحرب جاءت هزلية ومُرتجلة، وأساء بطل الفيلم للقضية كلها، كما أساءت تلك المشاهد للشباب المصري الذي دخل الحرب نتيجة إحساسة الواعي بالخطر، فالبطل يكتشف أن الفتاة التي يحبها هي عشيقة لوالده الباشا، فيجن جنونه ويهرب من الحياة، بالانخراط في صفوف المحاربين ضد العصابات الصهيونية، وفي فلسطين ينفجر مدفعه نتيجة قذيفة فاسدة فيفقد عينيه، وينتحر والده نتيجة شعوره بالذنب تجاه ابنه الذي قتلته الأسلحة الفاسدة، وكان هو أحد مستورديها.

ولم يسلم من تلك الموجة إلا نماذج محدودة، كان أبرزها فيلم "الله معنا" لأحد بدرخان 1955، وقد تدخل جمال عبد الناصر بنفسه ليسمع بعرض الفيلم، فقد تم تصويره بعد قيام الثورة مباشرة، ومنع من العرض ثلاث سنوات، حتى عرض على رئيس مجلس قيادة الثورة وشاهده- وكما قيل- دهش من كذب الإشاعات التي كانت تتردد بشأنه، وأمر بعرضه، وحضر نفسه حفل الافتتاح في سينما ريفولي 14مارس 1955، وكان هذا أول فيلم يحضره جمال عبد الناصر.

"الله معنا" قصة إحسان عبد القدوس، يحكي عن ضابط مصري مبتور الذراع من حرب فلسطين وهو مصمم على تعقب المجرمين الذين تسببوا في كارثة الأسلحة الفاسدة، والضابط على علاقة حب بابنة عمه الباشا، الثري الذي ساعده، وهو ابن أخيه الفقير، ليلتحق بالكلية الحربية، لكنه أحد المشاركين في إتمام صفقة الأسلحة، ويتوصل الضابط وزملاؤه إلى مرتكب الجريمة بدءًا من الملك، ومرورًا بالحاشية والباشوات، وعمه أيضًا، وينتهي الأمر بالباشا إلى الاعتقال عند قيام الثورة، وانفجار قنبلة من تلك الأسلحة الفاسدة، عند محاولته الهرب بالوثائق والمستندات وموته، مما سيؤدي بالطبع إلى زواج الضابط من ابنة عمه، تلك الزيجة التي كان الأب لا يحبذها.

إسماعيل يس بطلًا لأفلام الثورة

عبر إسماعيل ياسين عن تقديره لثورة يوليو بتأخير عرض فيلمه "اللص الشريف" 1953، وأضاف له فقرة خاصة ليهنىء الشعب المصري ويعلن تأييده للثورة، فغنى مونولج "عشرين مليون وزيادة" بين الناس في الشاعر بكلمات الشاعر "ابن النيل"، وأشار في الأغنية إلى شعور المصريين وفرحتهم بالثورة ودعهم للجيش، وأشاد بـ"نجيب": "الجيش ونجيب عملوا الترتيب" ووصف الملك "بـ"أبوكرش كبير".

وبعدها اتفقت الجهات الرسمية في البلاد على تنفيذ سلسلة من الأفلام عن الجيش المصري، وكان مخرج هذه السلسلة فطين بعد الوهاب الذي كان ضابطًا مستقيلًا من الجيش، حسبما روت زوجة الفنان الراحل.
وأُنتج 6 أفلام عن أسلحة الجيش المختلفة، وحضر الرئيس جمال عبد الناصر عرض فيلم "إسماعيل ياسين في الجيش" بسينما ديانا، وأعلن رضاه الشديد.

وعُرضت الأفلام في المدارس والاحتفالات والمناسبات الوطنية وتم تصويرها في وحدات الجيش وثكناته من القادة والضباط، ووجه شركة الإنتاج "أفلام الهلال" الشكر لضباط وصف الضباط وجنود القوات المسلحة في بداية فيلم "إسماعيل ياسين في الجيش".

شاشة السينما تفتقد لفيلم يجسد ثورة يوليو

حلّت نكسة 1967 وانكسرت الأحلام في قلوب المصريين، عبر عن هذه الخيبة بعض المخرجين في السينما المصرية من خلال عدة أفلام، "شىء من الخوف" إخراج حسين كمال 1969 قصة ثروت أباظة، فمُنع من الرقابة ولم يخرج للناس إلا بعد موافقة الرئيس جمال عبد الناصر بعدما شاهده بنفسه، ومُنع أيضًا فيلم "ميرامار" إخراج كمال الشيخ، قصة أديب نوبل نجيب محفوظ ولم يُعرض إلا بعد أن شاهده الرئيس محمد أنور السادات وكان وقتها رئيس مجلس الأمة. لكن لم يخرج فيلم حتى الآن يوثق أحداث الثورة دراميًا بكل تحولاتها.