كمال بريقع يكتب: الأزهر.. وثمار 2018
عام جديد يمر على مؤسسة الأزهر الشريف، تلك المؤسسة العريقة التى تضرب بجذورها فى عمق التاريخ الإنسانى وتستمر فى حمل شعلة رسالتها للمسلمين فى شتي ربوع الأرض لتضىء لهم الطريق نحو المعرفة الصحيحة، ورسالة الأزهر فى جوهرها الأساسي للإنسانية على اختلاف أجناسها وتنوع أديانها وتباين ثقافاتها ومشاربها لما تحمله من قيم إنسانية تعزز من ثقافة السلام واحترام المخالف والتعايش السلمي بين مختلف الشعوب وتنشر قيم التسامح والمواطنة والرحمة التى جاء بها نبينا محمد صلي الله عليه وسلم.
وقلما عرفت الإنسانية عبر تاريخها الطويل الممتد معهدا علميًا اضطلع بمهمة نشر العلم والثقافة والنور ليفد إليه الطلاب من شتي ربوع الأرض ينهلوا من معينه ويتربوا فى رحابه، ويتتلمذوا على أيدي علمائه الأجلاء فى شتي العلوم والتخصصات كما هو الحال فى مؤسسة الأزهر الشريف.
وفى هذا العام سعي الأزهر الشريف، هذا الحصن المعرفي المنيع، إلى بسط شمس معرفته ليسطع نوره ويمتد إلى مسافات شاسعة من خلال جولات الإمام الأكبر الخارجية، التى بدأت بزيارته للعاصمة البرتغالية لشبونة في الرابع عشر من مارس 2018، وبدعوة من الرئيس البرتغالي، ومرورًا بزيارته للعاصمة الموريتانية نواكشوط، ودولة أندونيسيا، وسنغافورة، وسلطنة بروناي، وبريطانيا، وكازخستان، ومدينة بولونيا الإيطالية، ودولة الإمارات الشقيق، وانتهاءًا بكل ما تقوم بها المؤسسة بشتي قطاعاتها المختلفة من أنشطة مكثفة وجهود كبيرة واسهامات راقية لخدمة المسلمين داخل مصر وخارجها ودعم قضايا العالم الإسلامي شرقه وغربه، يأتى هذا كله ليعكس الدور الرائد والفريد لهذه المؤسسة الإسلامية الأكبر في العالم ويؤكد على دورها المتصاعد وتأثيرها الفاعل في ظل ما تحظي به من اعتدال وقبول عالمي واسع.
والسؤال المهم هو: كيف واصل الأزهر عطائه الألفي وما هو السر فى بقائه هذه المؤسسة العريقة وهذا الصرح المعرفي الكبير عبر هذه القرون الطويلة؟، والإجابة على هذا التساؤل تكمن فى اضطلاع الأزهر بتقديم المعرفة الصحيحة عن الإسلام والعلوم الدينية المرتبطة به من تفسير وحديث وفقه وتوحيد ومنطق وفلسفة وتاريخ إسلامي وفكر دينى قديم ومعاصر وثقافة إسلامية فضلا عن سائر العلوم الطبيعة التى تدرس فى جامعات العالم المختلفة وتدرسها جامعة الأزهر الشريف، بالإضافة إلى أصول هذه العلوم ومناهجها ليكون الأزهر بمثابة المنارة التي تنير عقول المسلمين، والأمر الثاني فى سر استمرار هذه المؤسسة برغم من كل العوامل الاجتماعية والسياسية التى تشهدها الساحة العالمية والإقليمية والتى أدت إلى ضعف وانكسار بل واندثار الكثير من المؤسسات والمعاهد العلمية هو هذا المنهج الوسطي والإنساني والذى حافظت عليه المؤسسة منذ نشأتها على أرض مصر، وإيمان الشعب المصري برسالتها واعتدالها وما تقدمه من خدمة لأبناءها والدور الذى تقوم به فى الحفاظ على ثوابت الأمة ودور مصر وريادتها الروحية للعالم الإسلامي. ومن العوامل المهمة أيضا حمل المؤسسة لرسالة السلام لكل بني الإنسان، والسعي لتشييد جسور التواصل والحوار بديلًا عن الجدران والحواجز. والأمر الآخر الذى ساهم فى الحفاظ علي هذه المؤسسة واستمرار عطائها هو قدرتها على مواكبة المستجدات التى تشهدها الساحة الفكرية على المستوي الإقليمي والعالمي وقدرتها أيضًا على تقديم خطاب منضبط يجمع بين عراقة الماضى وأصالته، ويخاطب الواقع المعاصر بكل ما يحمله من إشكاليات وهموم مع المحافظة على ثوابت الأمة ومقدراتها. ولا شك أن الدور الذى يقوم به الأزهر فى مواجهة الفكر المتطرف وتصحيح المفاهيم المنحرفة والمغلوطة والتأكيد على حرمة الاعتداء على الآخر، وخطورة القتل باسم الدين، والدفاع عن حقوق الضعفاء واللاجئين لا سيما من تركوا أوطانهم نتيجة لنزاعات وحروب كان التطرف سببًا في اشعال فتيلها، وتحذيره من خطر جرائم الكراهية وارتفاع وتيرة "الإسلاموفوبيا" وتسليط الضوء على أسبابها ودوافعها، والقضاء على أسباب الخوف غير المبرر من الإسلام في الغرب، واشتباك الأزهر وتفاعله مع الشباب عبر صفحات التواصل الإجتماعي لتحصين الشباب من خطر الإنحراف والتشدد، وخلق إطار ايدولوجى مواز يمثل مرجعًا لشباب المسلمين الذين باتوا يعانون من خطر الاستقطاب الحاد الذى فرضته الجماعات المتطرفة، وتطلع المسلمين شرقا وغربا ودوائر البحث العالمية والأكاديمية وغيرهم من المهتمين بدراسة التطرف لمعرفة حقيقة ما تروج له جماعات القتل باسم الدين من زيف وانحراف هو خير دليل على نجاح الأزهر فى استعادة الخطاب الديني المختطف، وأنه استطاع أن يدشن لحقبة جديدة تبشر بالقضاء على اقتلاع الفكر المتطرف من جذوره، إيمانًا من مؤسسسة الأزهر بأن الفكر لا يحارب إلا بالفكر وأن فتح باب الحوار وتقديم خطاب منطقي يتسق مع الواقع والعقل هو السبيل الأمثل لتحصين الشباب من الوقوع فريسة لخوارج العصر ولهذه الجماعات المارقة.
والأمر المهم أيضا هو انفتاح الأزهر على غيره من المؤسسات العلمية والدينية والانخراط معها فى الحوار لمواجهة التحديات العالمية وذلك بدلًا من تبني سياسة الانغلاق والانكفاء على الذات وإدراكا من المؤسسة أن الصراع هو البديل المطروح عند غلق أبواب الحوار ولعل ما يقوم به الأزهر من خلال المنظمة العالمية لخريجي الأزهر والتى وصل عدد فروعها إلى 19 فرعًا حول العالم من تدريب الطلاب والأئمة الوافدين وتأهيلهم ليكونوا سفراء الأزهر إلى العالم فضلا عن 13 فرعًا فى محافظات مصر المختلفة، وتفعيل التواصل بين الخريجين أنفسهم، من خلال إقامة المهرجانات الثقافية والرياضية للتقارب بين الثقافات المختلفة، وعقد بروتوكولات تعاون مع عدد من الجهات الدولية، بهدف تفعيل قوة الأزهر الشريف والمتمثلة في خريجيه المنتشرين حول العالم، واستعادة دوره الريادى على الساحة العالمية، تجعل من هذا الصرح العلمي الكبير صمام أمان للمجتمعات الإسلامية والإنسانية على حد سواء.
وتأتى علاقة الأزهر بالكنائس الشرقية والغربية تتويجًا لهذا الانفتاح وتشجيعًا لثقافة الحوار وتجسيدًا عمليًا لقيم السلام والتسامح وللمباديء السامية التى جاءت بها الأديان السماوية حيث قطع الأزهر شوطا طويلًا فى هذا المضمار إيمانا من هذه المؤسسة العريقة بأن تحقيق السلام هو واحد من أهم المقاصد التي جاءت بها شريعة الإسلام والذي إذا فُقد ضاعت معه سائر القيم، وأنه: "لا سلام فى العالم دون سلام بين الأديان" كما أكد على ذلك هانز كونغ. وقد كانت تحركات الأزهر الواسعة بعد أن استعاد فضيلة الإمام الأكبر علاقة مؤسسة الأزهر بالفاتيكان وهو المؤسسة المسيحية الأكبر والقيادة الروحية للكنيسة الكاثوليكية في العالم والتي يربو عدد أتباعها على 1.147 مليار نسمة والتقدم بها إلى أفضل مما كانت عليه، وتأسيس علاقات متميزة مع مجلس الكنائس العالمى والذى يضم عدد كبير من الطوائف المسيحية والتي يتبعها أكثر من 590 مليون نسمة في العالم في 150 دولة، فضلا عن علاقة الأزهر بكنيسة كانتربري والذى شهدت واحدا من أهم المبادرات التى تستهدف قطاع الشباب بعقد "منتدى شباب صناع السلام" والذى أطلقه الأزهر خلال عام 2018، بالتعاون مع مجلس حكماء المسلمين وأسقفية كانتربري البريطانية، حيث شارك في المنتدى، الذي عقد في العاصمة البريطانية لندن، يوليو الماضي، 50 شابًا من المتميزين وأصحاب المبادرات الاجتماعية الفعالة؛ ليخوضوا معا مجموعة من ورش العمل والأنشطة الحوارية والتفاعلية، بهدف تبادل الآراء والنقاش حول أبرز القضايا الإنسانية المشتركة، خاصة تلك التي تتعلق بالتعايش وقبول الآخر ورفض العنف وترسيخ ثقافة السلام، بهدف بناء فريق عالمي من الشباب الواعد.
لقد حافظ الأزهر على أمانة العلم والمعرفة التى ورثها عبر قرون طويلة وكان معبرًا فى كل مراحلة عن ضمير المصريين وخادمًا لجموع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بل وأستطاع أن يضيف إليها فى كل حقبة ما يجعل من ينتسبون إلى رحابه يشعرون بالفخر لانتماءهم لهذا الصرح العلمي الشاهق.
ولا شك أن أهم عوامل تقدم الأمم وإزدهارها هو الحفاظ على تراثها وإرثها الحضاري والإنساني والاستفادة من كل ما هو ملائم فيه فى جميع مناحي الحياة المختلفة لا بالتخلي عنه والدعوة إلى هدمه والانسحاق أمام كل ثقافة وافدة بدعوي التمدن والاستنارة والمحاولات البائسة واليائسة للقضاء على الجذور الثقافية والمعرفية لحضارتنا وتراثنا وماضينا بدعوى أننا أمة "ماضوية" تعيش حالة من الارتهان لماضيها وأن هذا هو سبب تخلفها وتأخرها عن الركب، والحقيقة بخلاف ذلك فالتاريخ هو عرض الإنسانية كما يؤكد الكاتب الكبير عملاق الأدب العربي، وأمة بلا ماضي، أمة بلا مستقبل.
د. كمال بريقع عبد السلام
منسق عام مركز حوار الأديان بالأزهر